خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 26 ذو القعدة 1438هـ الموافق 18 أغسطس 2017م بعنوان " الجدال وأثره على الفرد والمجتمع"

  18-01-2018

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون .. من اللوثات الخبيثة والصفات القبيحة والسجايا البغيضة التي بدأ سريانها، وتكاثرها في أوساط الناس لما بعدوا عن الهدي القويم والصراط المستقيم الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ‏المراء والجدال، وهو تردد الكلام بين طرفين بقصد إبطال كلام أحدهما، ومن ثم الاعتراض على كلام الغير بإظهار النقص والغلط فيه، ‏إما في لفظه أو في معناه أو في قصد المتكلم منه. 

والجدال والمراء عباد الله، مظنة الضغائن والأحقاد، وقسوة القلوب وتنافرها، وحضور الشياطين، فإن الشيطان أيس أن يعبده المسلمون فعمد إلى التحريش بينهم ليتخاصموا فيما بينهم.

‏الجدال - عباد الله - يأكل الحسنات، ويورث السيئات، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم، عن أبي أمامه الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا قوله تعالى: "ما ضربوه لك إلا جدلاً ‏بل هم قوم خصمون".

‏المراء والجدال – عباد الله - نفعه قليل، وضرره عظيم، لا يقنع بحق، ولا يحق باطلاً، بل يكون وسيلة لتهييج العداوة بين الإخوان، وتهديم الروابط الإنسانية بينهم، قال الإمام الأوزاعي – رحمه الله- : "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل".

‏وأعظم ما يكون فساد الجدال والمراء، إذا كان في الدين، فإنه محبط للأعمال، وصاد عن الحق، حتى قال الفاروق رضي الله عنه: "إنما يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون".

‏الجدال -عباد الله -، يمحق الدين، ويحرم صاحبه من الوصول إلى الحق ‏ومعرفة الرشد، ينبت الشحناء في صدور الرجال، مما يورث الكراهية والبغضاء والفساد بين الناس. روى أبو داود عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".

‏قال بلال بن سعد -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل لجوجاً معجباً برأيه فقد تمت خسارته".

يقول سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا".

‏الجدال- عباد الله - فطرة فطر الله عليها البشر، بل إن فئاماً من الناس قد أوتوا بسطة في اللسان، وبلاغة في الكلام، وقدرة على الخصام والجدال، فالكلام ‏عندهم شهوة غالبة لا يملون منه أبدا، ديدنهم الجدال والمراء ولو كانوا يعلمون أن الحق مع غيرهم، أشربت قلوبهم ونفوسهم حب الجدال.

‏فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أبغض الرجال إلى الله، الألد الخصم" أي شديد الخصومة والمخاصمة، ‏قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال مماريا".

‏الجدال -عباد الله - عادة اليهود والنصارى الذين جادلوا رسل الله سبحانه وتعالى، ليصدوا أتباعهم عن الحق الذي جاءوا به، ويبطلوه، والقرآن كله كاد أن يكون حديثاً عن جدال الأمم لأنبيائهم ورسلهم، وما آذوهم به وكذبوهم، يقول سبحانه:" يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ".

‏ولهذا عباد الله .. كره السلف كثرة الجدال، ونهوا عنه، وزجروا عن الخوض فيه، وحذروا من التوسع فيه، لأن التوسع في الجدال من قلة الورع، فإن المؤمن قليل الكلام، كثير الصمت، إلا بذكر الله عز وجل، ‏والجدال ليس من ذكر الله، وقد قال الحسن البصري -رحمه الله - لما سمع قوماً يتجادلون قال عنهم: "هؤلاء ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا".

‏فالواجب على المسلم، إذا سمع كلاماً من مصدر يثق به أن يصدقه إن كان حقا، أو يعرض عنه إن كان باطلاً وكذباً، ويبتعد عن المماراة والمجادلة فيه.

‏قال الحكيم لقمان لابنه وهو يعظه: "يا بني! لا تمارين حكيماً، ولا تجادلن لجوجاً، ولا تعاشرن مظلوماً، ولا تصاحبن متهماً"، وفي منثور الحكم لا تمارين حليما ولا سفيها، فإن الحليم يغلبك والسفيه يؤذيك.

‏ويخطئ في الفهم من يظن أن الامتناع عن المراء والجدال، أو الصمت حين تطاول ألسنة الآخرين نوعاً من الضعف والهزيمة، كلا بل إن ذلك تعقل وحكمة، وضبط النفس، وإن بدا لضعاف الإيمان ‏والعقول عكس ذلك، فقد ذكر الله سبحانه في صفات عباده المؤمنين أنهم "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ"، وقال سبحانه: "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا"، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".

وقد أحسن من قال:

إذا نطق السفيه فلا تجبه 

فخير من إجابته السكوت 

‏ثم اعلموا رحمكم الله- أن الجدال له بواعث أهمها: الغرور، والكبرياء، والخيلاء، والإعجاب بالرأي، وإظهار العلم، وادعاء المعرفة، وقصد الأذى والنيل من الآخرين، واتباع الأهواء والشهوات والإرادات الباطلة، ‏وتغطية ذلك كله بحجج كلامية مزورة يعلم المرء من داخل نفسه بطلانها، ولكنه يدافع عنها، ويسترها، لضعف نفسه، ودنو همته، فإن الحق أحق أن يتبع، وقد كشف الله تعالى ذلك بقوله: "بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ".

‏فاتقوا الله - عباد الله - اتبعوا الحق، واحذروا الباطل، واقتدوا بهدى النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفي وإيلكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.

 

‏الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..

اعلموا رحمكم الله أن الجدال والمراء في الغالب مذموم، ولكنه ليس على هذا الحكم دائماً، فإن الجدال المعتدل المبني على العلم والبصيرة وحسن الخلق والرفق واللين وحسن القصد والدعوة إلى الحق ورد الباطل جدال ممدوح مرغوب فيه؛ قال سبحانه: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". بل إن جدال المشركين والكفار والمنافقين والمبتدعة في سبيل رد زيغهم وضلالتهم واجب على كل مسلم ومسلمة؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم".

وإنما يكون الجدال مذموماً محرماً إذا كان بدون علم وفهم، وقُصد منه الفتنة والتمويه ونصرة الباطل بعد ظهور الحق وبيانه، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى عن المشركين في قوله: "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ".

ولكم عباد الله أن تتصوروا أحوال المتجادلين من المسلمين في الخصومات، الذين يمسون في غضب الله ويصبحون في سخطه، يكسبون السيئات ويخسرون الحسنات، قد أرخوا للشيطان أزمة ألسنتهم يخوضون بها في بحار الجهل والرذائل، ممن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله يبغض كل جعظري جواظ " أي المتكبر الكفور الجافي عن الحق، سخاب في الأسواق بخصومته، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة.

الجدل - معاشر المسلمين - فطرة فطر الله عليها البشر، ولكنه وجّهه وأرشده إلى الوسائل الكفيلة بتهذيبه للاستفادة منه في الخير الذي قد ينتج عنه، وتفادي الشر الذي قد يفضي إليه، ولهذا نهى عن الجدال بالباطل، والجدال في أمور الدنيا التي قد تورث الضغائن والأحقاد إلا بقدر الحاجة، وأمر بالجدال بالتي هي أحسن للدعوة إلى الله، وكسب قلوب الخلق، ورد الأهواء والباطل.

يقول الإمام الذهبي - رحمه الله- "إن كان الجدال للوقوف على الحق وتقريره كان محمودًا، وإن كان الجدال في مدافعة الحق أو كان بغير علم كان مذمومًا، وعلى هذا تُنزل النصوص الواردة في إباحته وذمه".

اعلموا عباد الله أننا مقبلون على أيام قال عنها صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر؛ أي العشر من ذي الحجة".

عليكم عباد الله بالتقرب إلى الله بالطاعات من صلاة وصيام وزكاة وصدقة وذكر وقرآن.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

طباعة