|
23-02-2017 |
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويرزق من يشاء بغير حساب، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه ما دامت السموات والأرض، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الأبرار والتابعين الأخيار وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فيأيها المسلمون ..اتقوا الله تعالى حق تقاته واعتصموا بحبله المتين دينه القويم، فإنه لا مقام ولا منجا ولا رفعة لأحد في السموات والأرض إلا بالاعتصام بهذا الدين الحنيف ومتابعة رسوله الكريم وانتهاج منهجه واقتفاء أثره "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين".
أيها المسلمون .. لا يستطيع المرء أن يعيش في الدنيا منفرداً أو معزولاً عن الآخرين ولا يعيش بعيداً عن مجتمعه وناسه، ولكن يعيش معهم مرتبطاً بهم ولو أراد العيش منعزلاً عن الناس لما استطاع العيش ولا وجد مكاناً يعيش فيه.
ولذلك يعيش المرء مع الناس يرونه ويراهم في غدوته وروحته، في يقظته وسباته، يعرفون أخباره وتصلهم معلومات عنه في كل حركاته وسكناته، وهو مرتبط بأرحام وخلان وأصدقاء وإخوان، يفرحون بأخباره الطيبة ويحزنون بالسيئة، هذا كله يشملهم ويُحكم عليهم من خلال الحكم عليه، وذلك من خلال تقييم الناس له ولما ينتشر عنه من السمعة والذكر.
أيها الأخوة في الله .. إذا كان الأمر كذلك فإن العاقل من يهتم ويلتفت لئن تكون له سمعة طيبة، وينتشر له ذكر حسن في ناسه وأهله ومجتمعه وبلده، ويبذل نفسه مخلصاً لله تعالى ليسجل له عند مولاه في صحائفه وموازين حسناته خلق حسن وذكر طيب يُثقّل موازينه ويرجح حسناته ويذكر به بعد مماته.
كما يحرص ويجتهد مبتعداً عن السوء والذكر السيء والأخلاق والتصرفات والسلوكيات التي تُرديه حيّاً بين الناس وميتاً عند الله تعالى، وحتى لا يُدوّن في صحائفه ما يخفف ميزانه من الأخلاق السيئة.
أيها المسلمون .. سمعة الإنسان رصيد في هذه الحياة حتى بعد الممات فيُذكر الإنسان بأعماله التي عملها فيثني عليه أو يذم عليها، إن السمعة والذكر محصلة عمل المرء وثمرة تصرفاته وسلوكياته، فإما أن تكون حلوة خضرة لذيذة يفرح بها في دنياه ويُبشّر بها في أُخراه، وإما أن تكون مرة علقماً تخرجه في دنياه وتؤسفه في أُخراه.
فإذا حفظ المرء دينه وعرضه وخلقه ونفسه وحاسبها وأخذ بخطامها ومنعها من النزول والسفول إلى الدركات، وحفظ نفسه أيضاً من ملازمة ومرافقة السيئين والفاسقين والفاسدين ومن ساءت تصرفاتهم وأعمالهم وضل سعيهم واعتصم بالله أعطاه الله السمعة الطيبة والذكر الحسن وعُرف به.
لقد أثنى الناس في يوم من الأيام بين يدي رسول الله على صاحب جنازة مرت أمامه صلى الله عليه وسلم أثنى عليها الناس فقال صلى الله عليه وسلم ( وجبت ) ثم مرت جنازة أخرى فذموها فقال ( وجبت ) فلما سألوه عن قوله ( وجبت ) للأولى والثانية قال ( وجبت الجنة للأول أثنيتم عليه فوجبت له الجنة، وذممتم الآخر فوجبت له النار للآخر، ثم قال: أنت شهداء الله في أرضه ) رواه البخاري ومسلم ، وقال النووي رحمه الله : الظاهر أن الذي أثنوا عليه شراً كان من المنافقين.
وعند الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي قتادة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يُصلّ على الذي أثنوا عليه شراً وصلى على الأخر.
أيها المسلمون .. لقد حرص على السمعة الطيبة والسيرة الحسنة والذكر الحسن أفضل البشر وأكرم الخليقة رُسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام، وسألوا ربهم عز وجل أن يوفقهم لذلك، وأن يسددهم ويحفظهم ويعينهم على التوفيق لهذه النعمة وهذه المنة.
كما حرص كذلك أهل الصلاح والخير والموفقون من المسلمين، بل حرص كل مسلم مخلص على التشرف بهذه النعمة، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصالة والسلام "واجعل لي لسان صدق في الآخرين" يقول ابن كثير: أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أُذكر به ويقتدى بي في الخير.
وقال مجاهد وقتادة رحمهما الله: يعني الثناء الحسن يعني: ثناء الناس عليه والترحم وذكره بالخير دائماً، وحرص على هذا الفضل نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رفض طلب الصحابة بضرب عنق عبدالله بن أبي سلول المنافق الذي كان يؤذي رسول الله ويتطاول عليه صلى الله عليه وسلم منع الصحابة من ضرب عنق هذا المنافق حذراً من السمعة غير السوية وهو صلى الله عليه وسلم المؤيد من الله تعالى الذي يتحكم في قلوب الخلق سبحانه وتعالى، ومع ذلك أبى إلا الاستقامة حتى مع من أساء إليه.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قالا: اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر يا للمهاجرين، ونادى الأنصاري يا للأنصار، فخرج عليهم رسول الله يقول: ما هذا دعوى أهل الجاهلية ؟ قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الأخر – يعني ضربه على دبره بيده – فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمعها عبدالله بن أبي سلول فقال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني بالأعز نفسه، ويعني بالأذل الصحابة المهاجرين.
فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال له صلى الله عليه وسلم: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" رواه البخاري ومسلم. حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على السمعة الطيبة لدعوته التي أشرقت الأرض بنورها، وكان يحرص على السمعة بأخلاقه وسماحته مع الناس ومعاملتهم والعفو عنهم حتى مع المخطئ عليه ومع عدوه.
ويبول أعرابي في مسجده ويهمً الصحابة بضربه فيمنعهم ويأمرهم بتركه حتى يتم بوله، ويناديه ويعلمه ويرشده ويوجهه بمقام المسجد وحرمته، فيتوجه الأعرابي يدعو ربه عز وجل "اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً"، ويعتكف صلى الله عليه وسلم وتأتيه أم المؤمنين زوجه صفية رضي الله عنها تزوره في معتكفه، فمر صحابيان فأسرعا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا سبحان الله يا رسول الله، قال: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً ، أو قال : شيئاً ) رواه البخاري ومسلم.
يقول النووي عند هذا الحديث: باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خالياً بامرأة وكانت زوجة أو محرماً له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به.
ويسأل يوسف عليه السلام ربه أن يجنبه السوء والفحشاء ويفضل السجن على البقاء في القصر عند امرأة العزيز ليدفع الريب عنه يقول: "رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم".
ولقد سطر الرسل الكرام وأهل الله المؤمنون سطروا أروع الأمثلة في سيرهم وخلد الله لهم السمعة الطيبة والذكر الطيب العطر عندما اتقوا ربهم واحسنوا وعملوا بالدين القيم وصانوا أنفسهم، فما يذكرون اليوم وإلى قيام الساعة إلا بالخير ويترحم عليهم الناس ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة.
أيها المسلمون .. السمعة الطيبة والذكر الكريم للإنسان إنما يكون لمن أسس بنيانه على دين الله الإسلام وعبد الله تعالى وحده وراقبه واعتصم به وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتمد منهج الإسلام وتحلى بأخلاقه وتأدب بآدابه ولم يرتاب فيه ولم تهتز ثقته في أنه أعدل المناهج وأكملها وأشرفها.
إن المرء المسلم مطالب أن يحفظ سمعته وسمعة أهله وناسه وبلده ومجتمعه ويحرص على الذكر الحسن وخاصة في هذه الأزمان التي يعيشها الناس والتي تكثر فيها الخطايا والمحن والفتن والشهوات والانحرافات والتقلبات والتحولات الحسية والمعنوية، والتي هي سبب السمعة السيئة في هذه الأزمان لأنها توفر البيئة وتتيح الفرصة لئن يلطخ المرء سمعته وذكره، فلهذا كانت السمعة الطيبة مقاماً رفيعاً ومنزلة عالية في هذا الزمان "ما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".
أيها المسلمون .. إن أسباب التلطخ بالسمعة السيئة والذكر السيء كثيرة لا تعد ولا تحصى لكثرتها وتعددها، ومنها الغرور بالدنيا ومتابعة زخرفها والشهوات والاستجابة للنفس الأمارة بالسوء ونسيان الله جل وعلا وإهمال الدين وضعف العقيدة والإيمان ومرافقة الغافلين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" رواه الترمذي وحسنه، يعني: انتقوا واختاروا من تتخذونه خليلاً ورفيقاً وصديقاً من كان ينفعكم في دينكم واستقامتكم وإلا فإنه يؤثر عليكم وتتطبعون بطبعه وخلقه. وهناك ظلم الناس يورث السمعة السيئة وهضم حقوقهم ومعارضتهم والحيلولة دون مصالحهم ومنافعهم وحوائجهم.
إن السمعة السيئة أيها المسلمون بلوى ترافق الإنسان في حياته وبعد مماته، وتدخل تحت بلوائها من يعول من الزوجات والذرية والأرحام، فهي ضرر كبير والبلية عندما لا يشعر الإنسان ببلائها.
دخل عُيَينه بن حصن الفزاري على رسول الله فأذن له وهو يقول: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، ثم ألان له الكلام، فلما خرج قالت له عائشة عن قوله فيه أول دخوله ثم كلامه بعدما جلس معه، فقال: يا عائشة إن شر الناس عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه" رواه البخاري ومسلم.
فهذا مبغوض عند الله والناس لسلاطته وجرأته في الباطل، وهناك سائر الكفار يُلعنون ويُذمُّون ليل نهار من قبل الناس ويوبخونهم والحال كذلك لمن أساء للناس بلسانه أو معاملته أو تصرفاته فإنه يناله مثل هذا والناس شهداء الله في أرضه، يهجرونه ويقاطعونه ويحذرون منه ويذكرونه بالسوء والدعاء عليه.
أيها المسلمون .. بسبب السمعة السيئة عان أبناء وذرية وزوجات وأزواج وإخوة وأخوات وأمهات وآباء وأرحام وكان الحمل ثقيلاً والتبعات كبيرة، فما بال أقوام عن السمعة الطيبة معرضون ولا يلتفتون وعن تصحيح الحال وتعديل المسار منشغلون، ماذا يرجون؟ هل أمنوا مكر الله؟ أم حسبوا أنهم في هذه الدنيا خالدون؟
فاتقوا الله عباد الله وأعدوا للآخرة عدتها وللقبور ووحشتها والقيامة وعرصاتها، نسأل الله العظيم أن يحفظ علينا وعليكم إيماننا وأخلاقنا ويثبت أخلاقنا على صراطه المستقيم ودينه القويم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أمة الإسلام .. اتقوا الله تعالى ما استطعتم واشكروه على نعمه وعلى ما أفاء عليكم من المنن عباد الله.
هذا موضوع عباد الله من أهم الموضوعات التي يذكر بها المؤمنون وهي السمعة الطيبة البحث والحرص على السمعة الطيبة والابتعاد عن السمعة السيئة، وكما سمعتم يا عباد الله فإننا نعيش في أزمنة الدنيا المتأخرة التي تكثر فيها الفتن التحولات والتقلبات، ولذلك أسباب تحصيل السمعة السيئة متوفرة عباد الله متوفرة بكثرة، ولذلك لا ينال السمعة الطيبة إلا من حفظه الله تعالى.
ألا يا عباد الله وإن من أكبر التلطخ بالسمعة السيئة هو متابعة الذين لا يعلمون سنن الله سبحانه تعالى في هذا الكون من الذين لا يقيمون لدين الله وزنا ولا يلتفتون إلى صلاة ولا إلى أمر بمعروف ولا إلى نهي عن منكر، هؤلاء عباد الله هم البلية الذين لا يعلمون الذين حذر منهم كما حذر منهم أنبياءه ورسله كما حذر منهم عباده المؤمنون.
فيا عباد الله .. الله الله في العمل الصالح، الله الله في الاعتصام بهذا الدين، فإن الاعتصام بدين الله عز وجل على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إذن الله عز وجل ينال المرء المسلم عباد الله به شرف السمعة الطيبة والذكر الحسن كما ناله الأنبياء والمرسلون كما أخبر الله تعالى عنهم، فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يدعو ربه "واجعل لي لسان صدق في الآخرين"، وهذا نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام بما سمعتم من أحاديثه عليه الصلاة والسلام ومنعه للصحابة من الاعتداء على من ارتكب خطئا كبيرا في بيت من بيوت الله تعالى، ومع ذلك تعامل معه صلى الله عليه وسلم بأعلى درجات الخلق الذي دعا هذا الأعرابي إلى أن يتوجه إلى ربه سبحانه وتعالى يدعو لنفسه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدع للصحابة لأنهم هموا بضربه والاعتداء عليه، فاقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم صاحب الذكر الحسن صاحب السمعة الطيبة الذي أثنى الله عليه الله سبحانه وتعالى فقال له ربه "وإنك لعلى خلق عظيم" عليه الصلاة والسلام.
أُعجب به أعداؤه عليه الصلاة والسلام قبل المؤمنين من سماحة خلقه وحرصه على العمل بهذا الدين وانتشار الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يقبل الناس دين الله عز وجل ولا ينفرون منه، وكم نصحه ربه سبحانه في القرآن كقوله سبحانه وتعالى " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وقال له ربه سبحانه وتعالى "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين".
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".