خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 25 جمادى الآخرة 1438هـ الموافق 24 مارس 2017م بعنوان "الهموم والغموم في حياة المسلم وعلاجها"

  03-04-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
 
أيها المسلمون .. ‏‏الهموم والاحزان قدر مكتوب على ابن آدم، وسنة ماضية ‏من سنن الحياة ولوازمها، يستوي في اصله ‏الحاكم والمحكوم‏، والغنى والفقير، والقوي والضعيف ‏، والذكر والأنثى، والصغير والكبير ‏لا يستطيع أحد أن ينفك ‏عن الهم، ولا يسلم من الحزن، فالحياة لا تصفو ‏بدون هم ينغصها،‏ ‏وغم ‏يذهب حلاوتها، وينسي لذتها وجمالها ، ‏وقد قال الحق سبحانه وتعالى "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ".
 
‏طبعت على ‏كدر ‏وأنت تريدها ..... صفوا من الأقذاء والأكدار

‏أجل - عباد الله - ‏إن الحياة مسرح عظيم للابتلاءات ، وميدان ‏فسيح للمنغصات، فالحياة ‏سرور يعقبه كدر ‏، ‏ونعيم يتلوه ‏شقاء ‏، واجتماع ينغصه فرقة، وعيش ينسيه القبر، ‏ولذة يقطعها الموت ‏، وراحة وسعادة يبددها الهم والحزن ‏ولن تكون - اخي المسلم - ‏مهما بلغت من الإيمان والصلاح، بأفضل ولا أكرم على الله تعالى من أنبيائه ورسله ، ‏وصفوته ‏من خلقة الذين عصفت ‏بهم الهموم، وعالجوا الغموم ، ‏وعاشوا حياة الابتلاءات ‏العظام في أنفسهم وأهلهم ‏؛ ‏ما بين فقر ومرض، و تكذب وطرد ، ‏وتسفيه ‏وايذاء ، ‏وفقد عزيز وقريب ؛ "مسَّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله". ‏

وليس بخاف عنا في القرآن : ‏خبر نبي الله أيوب عليه السلام حين نادى ربه بقوله : "أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"؛ ‏ولا خبر يونس حين "ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ"، ‏ولا خبر يعقوب حين "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم "، ‏ولا خبر موسى عليه السلام ‏حين خرج من المدينة ‏خائفاً يترقب؛ ولا خبر نبينا محمد ‏صلى الله عليه وسلم ‏حين رجع ‏هائماً على وجهه من الطائف مهموماً محزوناً بعد ما لقي من شدة الأذى والسخرية والتكذيب من أهلها ؛ ‏فخاطبه ربه بقوله : "فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ "؛ "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ " ؛ " وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ".
 
‏ولذا كان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد عصفت به الهموم ‏العظام في الدعوة والإصلاح والجهاد والايذاء : "‏اللهم إني أعوذ بك من الهم ‏والحزن، والعجز والكسل ، والجبن والبخل"، ولن يجد المرء حياة الراحة الخالصة من الهموم والاحزان إلا حين يمن الله عليه بدخول الجنة، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. 

ولقد سئل الإمام ‏أحمد رحمه الله:  متى الراحة؟ فقال:" الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة ". 

عباد الله ... إن الهموم والاحزان سنة ماضية من سنن الله في هذه الحياة، من لم يذق مرارة الهم في حياته ويصطلي بآلامه وحسراته، ناله من غباره ودخانه ما يكفي لتنغيص السعادة ‏في حياته، وإثبات أن الدنيا ليست للمسلم بدار قرار.

ولكن الهموم في واقع الناس تتفاوت نوعا وسببا وقدرا، والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثها في حياتهم وأحوالهم معها، وما ‏يحمله كل واحد منهم من هموم وأحزان، فمن الناس من يعيش هموم الحياة في حاضرها ومستقبلها وكأنه يحمل الدنيا على ظهره، فتراه مهموما محزونا في ليله ونهاره  ، ومستقبله و وظيفته، وأولاده وأسرته، لا يعرف ‏للأنس سبيلا ولا يجد للاستقرار طعما، ولا يهنأ بالفأل الحسن الذي دعا إليه الإسلام، حتى يشيب راسه ويهرم جسده ، وتضيق عليه الدنيا الواسعة، ويقنط من رحمة الله.

هذا ديدن غالب الناس الا من رحم الله ، فصاحب الجاه و المنصب ، والسلطان والشرف، مهموم على فقده وذهابه، وصاحب الدنيا والمال والتجارة، مهموم في كسبه وتصريفه والمحافظة عليه، والشباب مهمومون على المستقبل والدراسة والوظيفة وزواج، والأبوان مهمومان على أولادهم بين حاضر محفوف بالمخاطر ومستقبل لا يعلمه إلا الله ، والفقير والمسكين مهمومان من الفقر والمسكنة. 

ومن الناس من يعيش رغم الجراح والهموم من شرح الصدر مطمئن البال، واثقا من حكمة الله وأمره ‏راضيا بقضائه وقدره، راغبا في عاقبته الحميدة لعباده الراضيين المؤمنين. 

عباد الله .... وهموم الدنيا في الحقيقة كلها تنشأ من ضعف الإيمان وفقدان الثقة بالله تعالى ،ومن سوء الظن بالله وعدم الاعتماد والتوكل عليه وعدم ‏الرضا بما قضى وقدر للعبد، بل ان ضعاف الإيمان وقليلي الثقة بالله تعالى يصابون بالانهيار أو الجنون وربما يقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة ،والحبوط ، واليأس الذي يخيم على حياتهم ، حتى قنطوا من رحمة الله . 

ولو تعقل هؤلاء وتفطروا لعلموا أن ما اصابهم قدر مكتوب عليهم وأنهم لا يملكون رد القضاء قبل وقوعه ، ولا تغييره بعد حلوله، وأن ما عندهم من المال والولد والصحة والنعم إنما هي ودائع لله عز وجل ، ولا بد يوما أن ترد الودائع ، وأن الخير كل الخير ، والراحة والاطمئنان إنما يكون في الرضا بأمر الله تعالى، فلقد ثبت عند الترمذي بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه ‏فكأنما حيزت له الدنيا"
مر إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - على رجل مهموم فقال له: إني أسألك عن ثلاثة فأجبني، أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله ؟ أو ينقص من رزقك شيء قدره الله؟ أو ينقص من اجلك لحظة كتبها الله؟ فقال الرجل: لا ! فقال ابراهيم : فعلام الهم؟ إذن يرحمك الله ؟! 
وعن عبد الله بن عون – رحمه الله – قال " بينا رجل في بستانه بمصر في فتنة آل الزبير جالس مكتئب ينكب بشيء معه الارض ، إذ سمع هاتفاً يَقُولُ لَهُ: مَالي أراك مهموماً حزيناً بالدُنيا، فإنّ الدُنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، أما الآخر فإنها أجل صادق يحكم فيها ملك قادر ، يفصل بين الحق والباطل ".
ومن الناس عباد الله، من همه مرضاة الله والدّار الآخرة فتراه مهموماً بنجاة نفسه من النار ودخول الجنة ، مهموما بالمنافسة في الأعمال الصالحة ، مهموما بنشر الإسلام والدعوة إلى الله ، مَهُمومَاً بإصلاح نفسه وأسرته ومجتمعه، مَهُمومَاً بأمته المسلمة، وَمَا تُعانيه من جهل وضعف، وظلم ونكبات. 

ومثل هذه الهموم هموم محمودة مطلوبة ، لا تضر صاحبها بقدر ما تنفعه وتسعدّه في الدنيا والآخرة ؛ وقد رَوَى أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « مَن كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدّنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدّنيا إلا ما كتب له». رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وسنده صحيح.

ويقول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : "مَنْ جَعَلَ الهُمُوْمَ همّاً واحداً – هم أخرته – كفاه الله هم دنياه، ومن تشبَّعت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله به في أي أوديتها هلك". وصدق الله العظيم حين قال: "من عمل صالحاً من ذكر و أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيّبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.
 
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد، فاتقوا الله أيها الناس حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي فإن أجسادكم على النار لا تقوى.


اتقوا الله تعالى وراقبوه ، وأطيعوه ولا تعصوه ، ثم اعلموا رعاكم الله، أنّ الإسلام قد جاء بما يحقق للعباد السّعادة والراحة، ويكشف عنهم الهموم والأحزان ؛ ولذا دعت الشريعة إلى الفرح والبشر، والفأل والأمل، واستقبال الأحداث والمصائب بالصبر والرضا، والحرص على العمل الصالح والإيمان وتوثيق الصلة بالله ، والعيش والأنس بالناس ، والبعد عن الوحدة ، ونهت عن الاستسلام للهموم المفرطة ؛ لأنها تقضي على الأفراد والجماعات ، وتهدم الأسر والمجتمعات، وتغتال الطموح والتطلعات. 

وإن من العلاجات الناجعة التي جاء بها الاسلام لمحاربة الهموم وكشفها حين وقوعها:
الإيمان بالله تعالى والثقة به وحسن التوكل عليه ، والرضا بقضائه وقدره وخيرته للعبد ، وأن يعلم أنّ الخير فيما اختاره الله له، والشر فيها صرفه عنه. "ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه"، وكثرة الصلاة والذكر والاستغفار والدعاء ؛ فإنها من أعظم أسباب الراحة والاطمئنان ؛ وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح - إذا حزبه أو أهمه أمر، فزع إلى الصلاة.  وكان يقول لبلال : "رحنا بالصلاة يا بلال ". وعند أحمد بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، مَاضٍ في حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، 
أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك،  أن تجعل القران الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله همّه وَ حزنه، وأبدله مكانه فرجا".
  
فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما أرشد به صحابي حين قال له: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، واعوذ بك من العجز والكسل، واعوذ بك من الجبن والبخل، واعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، قال: فعلت ذلك، فاذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني"، ‏وفي الأثر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من لازم الاستغفار جعل الله له من كل يضيق مخرجا، ومن كل هم فرجا، ورزقه الله من حيث لا يحتسب".

‏وإذا كان ذكر الله واستغفاره سببا في ذهاب الهم وزواله، فإن الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم سبب في كفاية هم الدنيا والآخرة، فقد قال أبي بن كعب رضي الله عنه:  قلت يا رسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم اجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت قلت : الربع ؟ قال:  ما شئت، وإن زدت فهو خير لك.  قلت : النصف ؟ قال :  ما شئت، وإن زدت فهو خير لك. قلت : الثلثين ؟ قال :  ما شئت، وإن زدت فهو خير لك. قلت : أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال:  إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك. وفى لفظ:  إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك".
 
‏عباد الله .. ومما يعين المرء على علاج الهموم ودفعها عن نفسه معرفة حقيقة الدنيا، وأنها دار بلاء وامتحان، وشقاء وعناء، وأنها فانية زائلة، وكل ما فيها مقسوم بين الناس، وأنها لا تصفوا لأحد ‏والهموم فيها لا تدوم، بل تفنى كما تفنى السعادة، ولن يجد العبد طعم الراحة الحقيقية إلا في الجنة، إن أدركته رحمة الله وفضله. 

‏وأن يدرك المرء أن الفرج مع الكرب، وأن النصر مع الصبر، وأن اليسر مع العسر، ولن يغلب عسر يسرين، "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"، ‏وأن يعلم أن ما أصابه من هم وحزن تكفير للذنوب، وتمحيص للقلوب، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاركها، الا ‏كفر الله بها من خطاياه".
 
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
طباعة