خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 10 رجب 1438هـ الموافق 7 أبريل 2017م بعنوان "الإشاعة وخطرها على الفرد والمجتمع"

  09-04-2017

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
‏الخطبة الأولى:
أيها المسلمون .. مرض من الأمراض الاجتماعية الخطيرة ولوثة من اللوثات المفسدة المعروفة من قديم الزمان، لكنها في هذه الأيام اخذت في الانتشار والتنوع، حتى باتت تهدد أمن الناس وأرواحهم وأعراضهم وعلاقاتهم، وتؤذن بعواقب وخيمة لا تحمد عقباها، ولا تحصر نتائجها على الأفراد والمجتمعات فحسب، إنه مرض نقل الشائعات بلا تثبت ولا تبين، إنه لوثة نشر الأكاذيب الملفقة بلا تحرٍ ولا تروي، مما انتشر في هذه الأيام بصورة ملفتة، وبخاصه في وسائل الإعلام من فضائيات تدعي زورا الحيادة في نقل أخبارها أو ما انتشر بين الأفراد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وما به من كذب وبهتان، بل تجرأ البعض على نشر الأحاديث الباطلة والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على الحقيقة عبادالله يعد من أخطر الحروب المعنوية والأوبئة النفسية، التي تخلخل الأمن وتزرع الخوف، وتقضي على الثقة، وتستهدف عمق الإنسان وعطاءه وتقدح في قيمه ونمائه، ناهيك عما يصاحبها من إثم وذنب، إنها ظاهرة اجتماعية عالميه تعتبرها بعض المجتمعات والشعوب من أشد الأسلحة تدميرا، وأعظمها أثراً على العقول والأفكار، والقرارات والتصرفات.
عباد الله .. لقد كثرت الشائعات الملفقة، وتعددت وسائلها عبر وسائل الإعلام بشتى أنواعها، وتساهل الناس في تناقلها وتصديقها، دون تروٍ وتثبت، ودون نظر في العواقب أو مراعاة لخطرها وتأثيرها على الأفراد والجماعات ‏بل على دول وأمم، حتى راجت سوق الشائعات في هذا العصر بشكل لا مثيل له، ونفقت بضاعتها، وتعددت أشكالها وألوانها، ‏من تناقض في الأخبار والرواة وتعدد في المصادر والوسائل، فهذا ينفي والآخر يؤكد، وذلك يشكك والآخر يظن. 
‏عباد الله .. وما أكثر الأحاديث الأقوال والأخبار التي يتناقلها الناس، والقصص التي يروونها عن فلان، ويتناقلونها عن فلان، دون التثبت من صحتها، او التحقق من صدقها، ‏فإذا بحثت عن تفاصيلها وفتشت عن أصلها وجدتها لا تعدو أن تكون إفكاً وكذباً وزوراً، يحمل عليها أحياناً الفراغ وأحياناً حب إيذاء الآخرين والوقوع في أعراضهم، ‏وتشويه سمعتهم، وأحياناً الفضول وقطع الأوقات في المجالس بالغريب من القول والأخبار، وأحياناً بدافع من الجهل وعدم المبالاة وعدم التورع عن نقل الأخبار أو الأحاديث النبوية أو الفتاوى الشرعية.
‏عباد الله .. لقد جاء الإسلام بمنهج واضح عظيم، وأدب قرآني فريد في تربية أتباعه على التعامل مع الأخبار، ونقل الشائعات و تصديقها، في ميزان دقيق يقوم على التحقيق والتمحيص، والتثبت والاعتدال، أرشد الله عباده إلى ذلك، وأمرهم بالتروي عند نقلها ثم حذرهم من العواقب الوخيمة في المسارعة إلى تصديق الشائعات وقبول الأخبار دون تحَرٍّ وتبيُّن، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)، لأن كل ما يسمعه المرء يختلط فيه الصدق بالكذب، قال النووي رحمه الله: "فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِب فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ وإن لم يكن متعمداً"، وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى عليه وسلم نهى عن قيل وقال، أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين.
وعند أبي داوود وأحمد بسندٍ صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "بئس مطية الرجل زعموا" قال الخطابي -رحمه الله - وإنما يقال: زعموا في حديث لا سند له، ولا تثبت فيه، وإنما هو شيء حكي عن الألسن على سبيل البلاغ، فذم النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله وأمر بالتثبت فيه والتوثق لما يحكيه، إنه مبدأ - زعموا، وقالوا ، وسمعت ، وأرسل من فلان، وغرد به فلان- إنه ضعف الوازع الديني، حيث تجرأ المرء على الاستخفاف بالحرمات، واستمرأ الكذب واتخذ من الشبهات مطايا، بل قد لا يتورع في نشرها وإرسالها ونقل الأقوال الملفقة، إنه السماح بانتشار الشائعات وقبول كل خبر دون تروي وتثبت.
عباد الله.. إن التثبت من الأخبار والتبين عند الشائعات يحفظ لك دينك، وهو دليل على رجاحة العقل، وسلامة التفكير، واحترام النفس، يحفظ الأرواح ويصون الأعراض، ويحقن الدماء، ويثمر الثقة في النفس ‏ويبعدها عن الظنون والشكوك والهواجس، ويقي المجتمعات والأفراد من مخاطر القرارات السريعة العشوائية المبنية على الأخبار المكذوبة والشائعات المنقولة، والعاقل المنصف هو من يزن ما ‏يسمع ويقال له من الأخبار والشائعات قبل أن يقدم على تصديقها أو نقلها، فما كان منها  باطلا أهمله، وما كان حقا أخذ به، وما لم يستبن فيه تثبت حتى يتبين له الحق والصدق، هذا هو عين العقل و الشجاعة. 
عباد الله .. المجتمعات الصالحة إنما تبنى بمحاربة الظنون وطرح الريب وتمحيص الأخبار ورفض الشائعات، وتقوم على الحقائق وحدها، فمتى شاع فيها الحق والعدل وانتشر فيها ‏الصدق صلحت وسادت، ومتى كانت الأكاذيب والشائعات هي الرائدة بين أفرادها، والمتحكمة في قراراتها فشلت فشلا ذريعا وسقطت في هوة سحيقة لا قرار لها من التهريج، والادعاء والظنون "وإن الظن لا يغني من الحق شيئا". قال تعالى: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا "، قال قتادة: " لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كه".
‏ أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.
 
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد، فاتقوا الله أيها الناس حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي فإن أجسادكم على النار لا تقوى.
 
عباد الله .. ‏ثم اعلموا - رعاكم الله - ‏أنه يجب ‏أن توزن الكلمات بميزان الصدق والحق، ‏فإنها إن لم تكن صدقاً وحقاً ‏، كانت كذباً وبهتاناً، والكذب والبهتان خرق للمصالح، وإضرار بالناس، وقطع للأواصر، فلا تكن - أخي المسلم - ممن اذا سمع خبر أو شائعة، طار بها، وسعى إلى نشرها، من غير تثبت من صحتها، أو نظر في جدوى نشرها، فإن هذا وأمثاله أفاك اثيم، هماز مشاء بنميم، لا تردعه تقوى، ولا يرده دين، ولا تحجزه مروءة، إذا حضر مجلسا أطلق الأكاذيب، وإذا دخل موقعاً أتى بالأعاجيب، وإذا سمع خبراً زاد فيه من الأقاويل، يسوق ما لا يخطر على بال، دون أن يكون له نفع أو فائدة. 
عباد الله .... وليكن منهج القرآن والسنة في التعامل مع نقلة الأخبار ومروجي الشائعات منهجا لنا، فهو المنهج الحق الذي سار عليه سلف هذه الأمة قولاً وفعلاً: يقول الإمام مالك لتلميذه ابن وهب رحمة الله عليهما: "اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماما، يقتدي به أبدا وهو يحدث بكل ما سمع".
‏ ‏عباد الله .. ‏وإن كان الحذر مطلوباً من تلقي الأخبار بين الأفراد، فإنه أشد طلباً عند تلقي الأخبار من وسائل إعلامية تقوم عليها أنظمةٌ فاسدٌة أو معاديةٌ، بحيث لا يهمها شعبها ولا مطلب الكرامة والعزة، فنراها تقذفه بالنيران والسموم الحارقة لأبنائه وأطفاله والهالكة لحرثه ونسله، ثم هي بعد ذلك تروج أكاذيب تهين من شعبها وتاريخه، ويكون بالتالي من ساهم في نشر أكاذيبها ‏وافتراءاتها قد شارك من حيث لا يدري في قتل الأبرياء وإحراق الأطفال. 
فاتقوا الله عباد الله واضمنوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم ما بين لحييكم يضمن لكم الجنة.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

طباعة