الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته ودينه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فيأيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى وسارعوا إلى مغفرته وسابقوا إلى مرضاته واغتنام فسحة الحياة الدنيا، تمسكوا بالإسلام وعضوا على العروة الوثقى منه، فالدين هو قارب النجاة وحبل الوصول وطريق السلامة والعافية في الدنيا والآخرة، دين الله تعالى هو سفينة النجاة وهو طريق السلامة من الغرق والهلاك خاصة في أزمنة الناس هذه التي امتلأت بالفتن كلما ذهبت فتنة تبعتها أختها بأشد منها ظلمة وغربة.
استمسكوا بالدين واعملوا بسنة سيد المرسلين وأبشروا بالنجاة والفوز والتمكين ودوام النعم وذهاب النقم وانقشاع الغمة، احذروا من التغيير السيئ والتبديل المضر، لا تغيروا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتتغير عليكم النعم وتغادر ساحاتكم المنن وتحل مكانها النقم، فما غيّر أحد نعمة الله عليه من بعد ما جاءته إلا وندم وخسر خسراناً مبيناً، ولا يغرنكم كثرة المبدلين والراكضين والمستجيبين لدعاة جهنم فإن أكثر الناس لا يعلمون وأكثرهم لا يؤمنون ولا يشكرون، "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون"، "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
أيها المسلمون .. الغيرة على الأعراض نعمة يمتن الله بها على عبده المؤمن الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، فهي نعمة يتميز بها المسلم الموحد على غيره من بني البشر، فلا توجد إلا عند المسلم، أما غيره فلا غيْرَة عندهم، إنها صفة إيمانية يكتسبها المسلم بعد إذن الله تعالى بإيمانه وإسلامه وكلما زاد إيمان العبد كلما ازدادت غيرته على عرضه وحرص على شرفه.
والغيرة شعور إيماني يدفع صاحبه من داخله ويحرك ضميره ويأمره بالمسارعة إلى ستر عرضه وحماية وستر عوراته وحراستها أبداً ما بقي في هذه الحياة.
أيها الأخوة في الله .. الغيرة على الأعراض اتصف بها الأنبياء والمرسلون والأئمة والصالحون والمسلمون أجمعون، بل اتصف بها الله تعالى اتصافاً يليق بجلاله وكماله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه" رواه مسلم. وقال: "ما من أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش" رواه البخاري ومسلم.
وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح – يعني لفصلت رأسه عن جسده – فبلغ ذلك رسول الله فقال: تعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" رواه البخاري ومسلم.
وتقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه واستقي الماء حتى قالت: وكان أغير الناس وكنت أحمل النوى على رأسي من أرض الزبير مسافة، فلقيني رسول الله مرة فأناخ بعيره ليوصلني فاستحييت أن أسير مع الرجال، وتذكرت الزبير وغيرته، فعرف رسول الله مني أني قد استحيت فمضى" رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون .. الغيرة خلق كريم وأدب عظيم وشيمة ومروءة ومنّة من الرحمن الرحيم وبرهان على الإيمان والاستظلال بظلال القرآن والإسلام، وهي عند الذكور والإناث على حد سواء، فكما يوجد الغيورون فإنه توجد الغيورات على أعراضهن من المسلمات المؤمنات، يغرنَ على بناتهن وأبنائهن وأزواجهن وأرحامهن، لكن الغيرة قد يكون فيها إفراط وتفريط وإنما نعني هنا الغيرة المعتدلة التي تبني ولا تهدم وتنتج ولا تفضح وتعالج ولا تسقم.
إن في دنيا المسلمين من أراد الغيرة بغير ما أنزل الله تعالى فأساء وهدم، وهذا الذي بناها على الشكوك والظنون والطعون وبالقوة والعضلات، فخرَّ عليهم السقف من فوقهم فانهدم البنيان وتفرقت الأسرة وتيتم الأبناء، وهذا قد زاد من مشاكل المجتمع وحمّل المسلمين أثقالاً مع أثقالهم، يحسب البعض أن الغيرة إنما تكون بالظنون فيبدأ متجسساً متحسساً متشككاً متتبعاً للعثرات متربصاً للأخطاء، إن هذا السلوك مرفوض شرعاً فما بنى الإسلام الأسرة على الشكوك ولا أقام أركان المجتمع على التجسس ولكن على الثقة والمعاملة الحسنة والاحترام المتبادل، إنه ليس من الغيرة أن تقطع حبال الثقة والاحترام وتحل التهم محل الثقة وتهضم الحقوق وتصادر الحرية الإسلامية وتتعدى الحدود ويتجاوز الحد، ولكن هي التي توقف كلاً عند حده وتبني الثقة وتؤكد الوصال والاحترام والعيش في ظلال الفضيلة.
أخوة العقيدة والإيمان .. لقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته الغيرة من خلال توجيه الشاب الذي جاءه يطلب منه الإذن في الزنا، يقول "ائذن لي بالزنا، فأقبل عليه الناس يزجرونه فقربه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وأخذ يناقشه يقول له: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، فيقول له: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لابنتك؟ قال لا، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، فما زال معه يستعرض له المحارم ويقول له: أتحبه لأختك، لعمتك، لخالتك، والشاب يجيبه: لا يا رسول الله، حتى أقنعه بخطئه وأفهمه أن الغيرة التي يجدها في نفسه على محارمه فإن الناس يجدونها في أنفسهم على محارمهم، ثم دعا له: اللهم اشرح صدره وطهر قلبه وحصن فرجه".
إن الغيرة على الأعراض والحرص على ستر العورات ومدارات السوءات حماية للمجتمع من الانهيار والعقوبة الربانية، فالمجتمع الذي لا يغار على حرماته ويسمح بكشف عوراته، مجتمع فتح للباب على مصراعيه لتدخل عليه الخبائث والفسوق والأمراض وسوء الأخلاق، فما جاءت الخبائث إلا من وراء التبرج والسفور وكشف العورات والسكوت عليها، ولا نزلت الأمراض المستعصية إلا من بعد ما انكشفت العورات وحدثت الفواحش والتردي في واد الشهوات، وإن مثل هذه المجتمعات لتنتظر عقوبة ربانية من الله تعالى ما حسب لها حسابها، وذلك لأنه ما رضي قوم بالسفور والعورات المكشوفة إلا أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر في القديم والحديث والمعاصر، ولكم أن تنظروا فيمن انكشفت عوراتهم وبدت سوءاتهم كيف كان عاقبة أمرهم، وهذه عقوبة كشف العورات التدمير والزلزال، يقول تعالى: "فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليه حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد"، وقال سبحانه: " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون"، وإن المجتمعات التي تراقب الله تعالى وتخشاه وتتوب إليه وتستغفره لهي مجتمعات تنشد الأمان والسلامة وهي مجتمعات مرحومة آمنة مستقرة، يقول تعالى: "فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين"، وقال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون".
لقد فرط البعض من المسلمين في الغيرة على الأعراض وأرخوا الحبل قليلاً كما يظهر في دنيا النساء في الأعراس والأفراح والاحتفالات وحتى ظهرت بعض النساء بملابس التفرنج المفصلة والشفافة ومخالطة الرجال وغير هذا كثير، وهذا والله خطر كبير عليهم لأن المرء إذا لم يتب من ذنبه ويرجع عن غيه وإلا يعاقبه الله في الدنيا قبل الآخرة بالختم على قلبه، ولا يزال المرء يرخي حباله حتى تنفلت من يده فينهار ويذهب، لأن الغيرة منّة ربانية تلازم المؤمن متى كان إيمانه قوياً صادقاً، فإذا ارتخت حبال دينه وعقيدته ارتخت بعدها كل فضيلة وعافية، ولهذا لما ذهب الإيمان عن الكافر أو لم يجده أصلاً بسبب كفره رأيناه بليداً قد تبلد شعوره ومات قلبه فلا يتحرك ضميره ولا يغار على محارمه، تُقبّل نساؤهم وتُضم بناتهم ولا يتحرك لهم ساكن ولا ضمير، وتُدخل بيوتهم ويجدون أصدقاءهم عند نسائهم وكأن شيئاً لم يكن، يدخل هذا ويخرج ذاك وكل هذا بسبب ذهاب الإيمان الذي حل محله الخبيث كله وهذه حال من تهاون ولم يهتم ، فألقى به تفريطه في واد عميق من الردى والضياع فأسكنه بيتاً خبيثاً اسمه الدياثة، والتي هي الإقرار والرضا بالخبث في الأهل وغض الطرف عن السوء في الأهل، وقيل: الديوث هو من لا غيرة له على أهله، وهذه التي تنزل بسبب الكفر والإهمال في الإيمان، وقد أصابت الكافر في مقتل فلم يعد يبال أين باتت نعجته ولا أين سرحت شاته، "إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل"، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الديوث لا يدخل الجنة فقال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه، والمرأة المترجلة والديوث" رواه النسائي بسند حسن صحيح.
ولا يخفى على كل ذي عقل ما لهذه الصفة الخبيثة من تدمير على المجتمعات والأخلاق والآداب والسمعة وتفكك الأسر وضياع الأبناء فاتقوا الله وتحلوا بالغيرة التي من بها الله على عباده المؤمنين. حفظنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن ومن منكرات الأخلاق والسلوكيات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون .. اتقوا لله تعالى وتحلوا بهذه الصفة المباركة الغيرة على الأعراض الغيرة المعتدلة التي دعا إليها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهي الثقة في الأهل والتوكل على الله تعالى ومراقبة الأمور باحترام وأدب مع الأهل والأبناء حتى تستقيم الأمور، لأن الإسلام يا عباد الله حريص على أن تكون الأسرة قوية لأنها هي اللبنة الأولى للمجتمع، والإسلام حريص كذلك على أن يكون المجتمع قويا بإيمانه وإسلامه وانتشار الأخلاق الكريمة فيه.
فيا عباد الله تحلوا بالأخلاق الكريمة التي ناداكم الله تعالى إليها في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وكونوا عباد الله مؤمنين مسلمين تطبقون إسلامكم كما أمركم الله سبحانه وتعالى، ولا تتعدوا الحدود فما تعدى أحد حدود الله تعالى أو تعدى الحد الذي حده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ضل وانتكس. وما وقف أحد عند حدود الله تعالى وتوقف عند ما نصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فاز ونجح
فيا عباد الله .. الله الله في التحلي بالأخلاق الكريمة التي من الله بها عليكم بإسلامكم وإيمانكم، ولا تنسوا أن تعملوا بالليل والنهار على تقوية الإيمان في قلوبكم وذلكم يا عباد الله بعمل الطاعات ومراقبة الله سبحانه تعالى والتفكر في آيات الله الكونية والشرعية وما أمركم الله تعالى به من العمل فإن هذا بعد إذن الله تعالى يقوي الإيمان
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله: "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".