خطبة جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي رجب 1438هـ الموافق 21 أبريل 2017م 24 بعنوان "الجار"

  23-04-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

 أما بعد، فيأيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى وراقبوه وأطيعوه واستمسكوا بدينه القويم وأبشروا بالعزة والتمكين والسلامة والعافية.

أيها المسلمون .. من محاسن ديننا الحنيف حثه على الإحسان إلى كل شيء، إلى الإنسان والحيوان والنعم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" رواه مسلم، ومنع الاعتداء على أي شيء، يقول الله تعالى "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".

وممن أمر بالإحسان إليه الجار المجاور لك، يقول الله تعالى "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم...".

وأوصى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار وأكثر من الوصية به وأكد عليه حتى ظن رسول الله أنه سيجعل له نصيباً من الميراث، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" رواه البخاري ومسلم.

ومن تتبع السنة المطهرة وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد أكثر من الوصية بالجيران، الأمر الذي يدل على كبير مقام الجار وكبير الإحسان إليه وكبير جرم من أساء إلى جاره، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" رواه البخاري ومسلم، وفي رواية "فليحسن إلى جاره"، وهذا يدل على أن الإحسان إلى الجار من خصال الإيمان .

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره" رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم "خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره" رواه الترمذي وقال حديث حسن.

أيها المسلمون .. الجار هو من جاورك وسكن بجوارك وهو أنواع ثلاثة كما جاء في مسند الإمام أحمد مرفوعاً من حديث جابر "الجيران ثلاثة، جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقاً، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقاً، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم فله حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم" تسأل عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ تعني أيهم أحق بالهدية؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً" رواه البخاري. وقالت طائفة من السلف: حد الجوار أربعون داراً، وقيل: مستدار أربعين داراً من كل جانب.

أيها الأخوة في الله .. الإحسان إلى الجار يكون بمواساته عند حاجته والسؤال عن حاله وصلته وتفقد جوائجه وتلمس متطلباته والسلام عليه وتهنئته والفرح له والحزن لما يلم به وبذل النصح له ودفع الغيبة عنه ورد الطعون عنه وتذكيره والدعاء له، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يشبع المؤمن دون جاره" رواه أحمد.

وقال في رواية "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع" وفي الحديث "أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنيته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإذا اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده".

أيها الأخوة في الله .. ومثلما جاء الأمر بالإحسان إلى الجار فقد جاء التهديد والوعيد لمن آذى جاره وأزعجه وأساء إليه بأي نوع من الإساءة، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن! قيل من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" وفي رواية "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" رواه البخاري ومسلم. والمعنى: أن المرء لا يبلغ كمال الإيمان أو الدرجة الرفيعة من الإيمان ما دام يؤذي جاره ويسيء إليه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" رواه البخاري ومسلم.

وعند الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قيل يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة، قال: لا خير فيها هي في النار"، وقيل: أن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق وليس لها شيء غيره ولا تؤذي أحداً قال: "هي في الجنة ".

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له "اطرح متاعك في الطريق، قال: فجعل الناس يمرون به ويلعنونه، فجاء إلى رسول الله يقول: لقيت من الناس، قال: وما لقيت منهم ؟ قال: يلعنوني، قال: فقد لعنك الله قبل الناس، قال: فإني لا أعود" رواه أبو داوود .. هكذا يكرم الله تعالى الجار ويؤكد على احترامه ويحذر من الإساءة إليه. ولئن يزني الزاني بعشر نسوة أهون من أن يزني بحليلة جاره، ولئن يسرق السارق من عشر أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره.

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الجار يشتكي جاره الذي آذاه يوم القيامة ففي الأدب المفرد للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة فيقول: يا رب هذا أغلق بابه دوني يمنع معروفه ويكفى وعيداً وتهديداً أن النبي صلى الله عليه وسلم ردد ثلاثاً مؤكداً أن من لا يسلم جاره من شروره لا يبلغ كمال الإيمان.

أيها المسلمون .. إن الجار محترم محشوم ولو كان كافراً، فما ظنكم إذا كان مسلماً ورحماً من الأرحام، كان السلف يهدون جيرانهم من ذبائحهم وكانوا من اليهود ويظهرون لهم أخلاق الإسلام وكبير سعة رحمة الله فيه، فلا يمنع الإسلام أتباعه من المعاملة الحسنة ولو كانوا على غير الملة الحنيفية بل ويأمرهم بهذا، إنه لمن المؤسف أن الجوار اليوم أهمل وهمش ففي دنيا المسلمين جيران متجاورون لكنهم لا يعرف بعضهم بعضاً ولا يتزاورون ولا يعود بعضهم على بعض لا في مرض ولا في صحة ولا في عيد ولا مناسبة، وخاصة في المدن الكبيرة التي أهمل الناس فيها حق الجوار وخاصة في أيامنا هذه وأزماننا التي طغت فيها النفوس وقدم فيها الدرهم والريال على المعاني والمروات.

وأعجب من كل هذا أن يتجاور الأرحام بالبيوت والسكنى ولا يكون بينهم التواصل ولا التقارب، بل القطيعة والإساءة والإعراض عن تعاليم الشريعة بحق الجار، وهذه والله هي المفسدة التي تفسد المجتمعات والبلدان عندما يسود التقاطع ويذهب الود والتواصل ولا يلتفت إلى ما نصح به الله ورسوله من أواصر القربى واللبنات التي تبنى بها النفوس وتربى بها الناس.

لقد نسي الناس أو بعضهم تعاليم الإسلام في شأن الجار وما له من الحقوق، نسوا الوعيد الشديد لمن آذى الجار وأزعجه، إن الأسف كله اليوم أن يتعمد البعض أذية جاره حتى يصرخ جاره مستنجداً ولا حياة لمن تدعو وتنادي، إن الدرهم والمال اليوم طغى على حال كثير من الناس حتى ضرب من أجل الريال بالأخلاق والأصول عرض الحائط.

لقد تعدى البعض واعتدى وتطاول على الجيران، يرفع على جاره الإيجار إن كان جاره يسكن داراً يملكها، وحاول البعض الآخر طرد جاره وإجباره على الخروج من دار يملكها طمعاً في المال، وتجرأ البعض فألقى بجاره ومتاعه في الشارع ورضي أن يقف جاره مع نسائه وأولاده في العراء.

والطامة الكبرى والأذية والبلوى ما يحدث اليوم بين الناس من استئجار مساكنهم للعمال والشركات والمؤسسات، يخرج من بيته ويؤجره على شركة تأتي بأربعمائة عامل وتلقي بهم بجوارك، ويبتعد الأخ والشقيق والرحم الذي كان بجوارك بالأمس تاركاً جاره يتعذب من تصرفات العمال وسلوكياتهم من الملابس ورفع الصوت والنظر المستديم والقهقهة والتشاجر والخلافات واستعمال ما أسكر وخدر خاصة إذا كانوا غير مسلمين.

يا لله! كم يعان الناس من هذه البلية؟ ويزداد الألم ويأسف المرء عندما يكون السبب في مقدم هؤلاء العمال من يزعم ودك ومحبتك ويفخر بإخوتك، إن هذا والله لهو الإثم الكبير وسوف يتعلق الجيران بعضهم في رقاب بعض بين يدي الله، وسوف يختصمون عند الملك العلام، إن المؤجر لبيته للعمال وهو يعلم أنه يسبب أذية لجاره قد ارتكب إثماً مبيناً وجرماً عظيماً ومخالفة صريحة لما أمر الله به ورسوله من رعاية حق الجوار والتحذير من أذيته.

وإن المكاتب العقارية التي تسعى لتؤجر لهؤلاء العمال بجوار العائلات مشتركة في الإثم والوزر لأن الله تعالى يقول "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان" وهذه المكاتب بتصرفها الأرعن وتأجيرها هذا تعاونت على الاثم والعدوان حسبنا الله ونعم الوكيل، أعمت الريالات قلوب الناس وطمست بصيرتهم حتى ضربوا بأمر الله ورسوله وتعاليم الشرع عرض الحائط.

إن على رجالات المجتمع أن يقولوا كلمتهم ويقفوا وقفة صادقة يمنعوا التأجير للعمال داخل المدن والقرى التي يسكنها المسلمون بعائلاتهم وذرياتهم ونسائهم، كم من الأخطار المحدقة والأضرار البالغة يتسبب فيها هؤلاء العمال، من شرب المسكرات والسرقة والاجرام وما ليس لنا به علم ولا معرفة من البلوى والأخطار.

هل يجب على المرء أن يبقى يحرس بيته وأهله وقته كله؟ هل يترك عمله وحوائجه من أجل مراقبة بيته وأسرته؟.

لقد قدمت المصالح والمنافع على ما أمر الله به حسبنا الله ونعم الوكيل، فلنتقي الله فيما أمرنا ولنحذر غضبه وسخطه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وتاب علي وعليكم وعلى إخواننا المسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إن ربي رحيم ودود.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أمة الإسلام .. اتقوا الله تعالى واعملوا عباد الله بإيمانكم وإسلامكم اعملوا بما أمركم  الله تعالى ورسوله في محكم التنزيل وفي سنته صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حق الجوار.

كان الناس قبل هذا الزمان يراعون جيرانهم إلى أبعد ما يكون، كان الجار في غاية الراحة وفي غاية الأنس لأنه يشعر أن جيرانه من حوله سيقومون به إذا قدر الله عليه نازلة أو كتب الله شيئا من أقداره أن جيرانه سوف يقومون به بعد الله تعالى وسوف يساعدونه،  وكثيرا ما نعرف من قصص آبائنا وأمهاتنا عن الجيران قديما قبل هذا الزمان، أما الآن فقد تغيرت أحوال الناس وتغير إيمان الناس وتغير إسلام الناس حتى أنكر الرحم رحمه المجاورة له.

فهل تتصورون اخوتي الكرام أرحاما تتلاصق بيوتهم بيتا مع بيت وقد يكون بين البيوت إلى ما شاء الله إلا أنهم لا يتواصلون ولا يتعارفون! حتى ليمر عليهم مثل رمضان والأعياد المباركة ولا يعرف بعضهم بعضا بسبب كلمة أو دينار أو درهم أو شيء من متاع الدنيا، هذه والله هي الحالقة التي تحلق الدين عياذا بالله.

يجب على المسلم يا عباد الله أن يتحلى بإيمانه وأن يعمل بما يأمره به إيمانه، النفس أمارة بالسوء تقول لك اقطع أرحامك وتكبر واستعلي على الناس ولكن إيمانك بالله عز وجل يأمرك أن تصل أرحامك وأن تتواضع للناس وأن تذهب إليهم وأن تكون مسلما كما يريد الله تبارك وتعالى وكما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه مشكلة تأجير البيوت بجوار العائلات من زمن بعيد، يجب عباد الله أن تقف عند حدها، لقد وصل الإزعاج ووصلت الأذية مبلغها ووصلت إلى درجة لا  تكاد تطاق، العمال لهم أماكن خاصة والعائلات والناس مع أهليهم وأولادهم يخشون على أهليهم وعلى بناتهم وعلى أولادهم.

فلنتق الله يا عباد الله .. ولنأخذ بما أمرنا الله ونصح، خاصة فيما يتعلق في موضوعنا هذا موضوع الجوار.

أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وإخواننا المسلمين إلى ما يحبه ويرضاه.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

طباعة