خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 14 رمضان 1438هـ الموافق 9 يونيو 2017م بعنوان "الصبر في أوقات المحن"

  11-06-2017

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

 

الحياة مسرح للمصائب والابتلاءات، وميدان فسيح للمحن والنكبات، فالدنيا هي دار البلايا والمحن، والمتقلبات والإحن، لا تدوم على حال، ولا يصفو بها مال، وإن طالت على المرء فيها أيام الراحة والسعد، فما هي إلا نكبة واحدة، أو مصيبة موجعه، فينسى ما مر به من سعد، ويتكدر في عينيه ونفسه ما ذاق من راحة، هكذا هي الدنيا مطبوعة على كدر، إنما هي شهوات فانية، ونعم زائلة، ولحظات راحلة، أيام معدودة يداولها الله بين الناس؛ لينظر كيف يعملون

 

والمرء فيها لا يملك لنفسه ضر ولا جلب نفع، ولا رد مقدور، ولا يتغير قضاء كتبه الله له أو عليه، فليس أمامه إلا توطين النفس على الصبر، وترويضها على التصبر والمصابرة، حتى يكون الصبر له سجية، يرتقي به إلى منزلة الرضا عن الله، فيرضى الله عنه، وتلك أسمى غاية يسعى إلى تحصيلها المسلم في الحياة وبعد الممات. 

 

ما قضى الله كائن لا محاله    

والشقي الجهول من لام حاله

 

والصبر عباد الله هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى لغير الله، وحبس الجوارح عن التشويش، وفي ذلك كله الثبات على أحكام الكتاب والسنة، وتلقي المصائب بصدر رحب، ونفس راضية مطمئنة، والوقوف مع البلاء بحسن أدب، وذلك أجمع أخلاق النفوس وأفضلها، فهي قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها.

 

وقد قال الله عز وجل: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) }. {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)"، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر"، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس في الحديث المشهور في السنن: "واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا".

 

وإنما كان الصبر أعظم العطايا، وجماع الخير؛ لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته، فكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر؛ فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حتى يقوم بها ويؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة حتى يتقبلها ولا يتسخط منها، والصبر على شكر النعم وصرفها في مرضاة الله حتى لا تتحول إلى نقم، والصبر على الناس عموما وخصوصا حتى يستطيع العيش معهم والقيام بحقوقهم وواجباتهم.

 

إذا ما أتاك الدهر يوما بنكبة

فأفرغ لها صبرا وأوسع لها صدرا

فإن تصاريف الزمان عجيبة

فيوما ترى يسرا ويوما ترى عسرا 

أجل عباد الله، إن الصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند لا يهزم، وحصن لا يهدم، إنه ضياء لا ينطفئ، وسراج منير لا ينمحي، معقود عليه النصر، ومقرون به الفرج، وهو أنصر لصاحبه من الرجال ذوي العدة والعدد.

 

يقول الفاروق رضي الله عنه: "أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو كان الصبر من الرجال لكان كريما، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أفضل العدة الصبر عند الشدة؛ لما في ذلك من محمود العاقبة في العاجل والآجل"، وهذا على أبي طالب يقول لأحدهم في مصيبته: "إن صبرت مضى أمر الله عليك وأنت مأجور، وإن جزعت مضى أمر الله عليك وأنت مأزور". وكان يوصي أصحابه فيقول: "عليكم بالصبر؛ فإن به يأخذ العاقل، وإليه يرجع الجاهل".

 

إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا انقطع الرأس بان الجسد، ألا لا إيمان لمن لا صبر له، وقال أبو عبيدة: ما اجتمعت العرب على شيء اجتماعها على الأمر بالصبر وتجنب أخلاق الغدر والأخذ على الناس بالغدر. ولهذا كثر تواصي أهل العلم والأدب والحكمة والعقل بالصبر ومما درج على السنتهم في أمثالهم وحكمهم ووصاياهم، الصبر على المكاره من حسن اليقين بالله . والصبر على النازلة خير لاشك فيه والصبر على النوائب كمال والصبر باب العز ومفتاح الفرج.

 

قيل للإمام ربيعه بن عبدالرحمن : ما منتهى الصبر؟ فقال أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. وعند مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد الا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له.

 

عباد الله .. لقد ذكر الله الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا وقرنه بالصلاة في قوله "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، وأخبر تعالى أن أهل الصبر مع أهل العزم "ولمن صبر وغفر إن  ذلك لمن عزم الأمور"، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به وكل من العلم والعمل بحاجة إلى الصبر واليقين.

 

ولهذا أثنى الله تعالى كثيرا على عباده الصابرين وبين أنه معهم بحفظه وتوفيقه وتسديده لهم "إن الله مع الصابرين"، وقرنه في مواضع كثيرة بمقامات الإسلام والإيمان والتوحيد والتقوى ووعد الصابرين توفيتهم أجرهم بغير حساب "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب".

 

فكل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر فإنه يوفى أجره بغير حساب فطوبى للصابرين! لقد فازوا بعز الدارين "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين"، روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينزل البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" .

 

فاصبر على القدر المحتوم وارض به

وإن أتاك بما لا تشتهي القدر 

 

فما صفا لامرئ عيش يسر به 

إلا سيتبع يوما صفوه كدر 

 

 

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد، فاتقوا الله أيها الناس حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واحذروا المعاصي فإن أجسادكم على النار لا تقوى.

 

اتقوا الله واشكروه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أن الصبر لازم للمسلم في هذه الحياة، لا ينفك عنه في علمه وعمله، وعلاقاته ونفسه، وفي شأنه كله، إنه علاج شرعي ووصية ربانية ونبوية مباركة، تعين المرء على العيش وتجلب له الفرج والنصر والسعادة والهناء، بل إن كثيرا من المصائب والمشاكل التي تعرض له يوميا لا يمكن تجاوزها إلا بالصبر.

 

وماذا يفعل من ابتلي بحاسد أو ظالم أو معتد أو جاهل، فما عليه في دفع ظلمهم ولا حسدهم ولا عدوانهم إلا الصبر، وأكرم به وأعظم فقد قال سبحانه: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا"، "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ".

 

فالصبر أفضل شيء تستعين به على الزمان إذا ما مسك الضرر تمسك بحبل الصبر في كل كربة فلا عسر إلا سوف يعقبه يسر، واعلموا أن الحياة لم تصف لأحد من الناس، حتى سادات البشر وصفوتهم من الأنبياء والرسل لم يسلموا من المصائب والابتلاءات، وغير خاف على أحد صبر نوح عليه السلام على أذى قومه وسخريتهم ودعوتهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

ولا صبر إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وأخرج من بلده، وأمر بذبح فلذة كبده إسماعيل عليه السلام.

 

ولا صبر أيوب عليه السلام على المرض والبلاء، حتى قال تعالى "إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب".

 

ولا صبر محمد صلى الله عليه وسلم، على أذى المشركين واليهود والمنافقين، والخروج من البلد والابتلاء بفقد الولد، والفقر والحاجة والجوع. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال"أَشَدُّ الناس بَلاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ  يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ"، وصدق الله "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب". 

 

ولا خير فيمن لا يوطن نفسه 

على نائبات الدهر حين تنوب

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

طباعة