|
11-07-2017 |
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما".
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
من تمام نعمة الله تعالى على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر والبلاء والمحن والأمراض والأسقام ما يُلجئهم إلى توحيده والرجوع إليه، فيدعونه تعالى مخلصين له الدين، يرجونه ولا يرجون أحدا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره ويحصل لهم التوكل عليه والإنابة إليه والاستعانة به، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف والشدة والضر، والبلايا والفتن، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يُصب منه".
وفي هذا عباد الله، نعمة عظيمة من نعم الله على عباده، ليمتحن صبرهم ويسمع تضرعهم، فلولا البلاء لبطر العبد وبغى وطغى، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
عباد الله .. حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته من الفتن وأمرها بالتعوذ من شرها فكان صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم في صحيحه يتعوذ بالله من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأخبر فيما أخبر به من علامات يوم القيامة أن هذه الأمة سيصيبها في آخر أمرها بلاء وفتن عظيمة، تزلزل الإيمان في القلوب ويلتبس فيها الحق بالباطل يرقق بعضها بعضا، وتدع الحليم حيرانا وأنه لا عاصم منها إلا الإيمان بالله تعالى والتمسك بهدي الكتاب والسنة.
عباد الله .. وكم يحرص المرء جاهدا أن يبتعد عن الخوض في هذه الأحداث والفتن التي تمر بها الأمة، ليعصم لسانه عن الكلام في أمور لا يدري حقيقتها ولا ما وراءها ولا الدافع إليها، أما وقد عمّت الفتنة وتبعها من مخالفات وجهل فإنه لابد للمسلم من وقفات مهمات، توضح له معالم الشريعة ومنهج الإسلام في التعامل في مثل هذه الأوقات العصيبة.
أما الوقفة الأولى فهي مع الاستعانة ..
أيها المسلمون .. لا يستطيع الإنسان العيش في هذه الحياة المليئة بالفتن والمحفوفة بالمكاره، ولا يستطيع تحقيق العبودية لله تعالى على وجهها الصحيح ما لم يكن له معين قادر يلجأ إليه وقت الشدائد ويهرع إليه عند الملمات، يسدده ويوفقه ويحوطه ويرعاه ليقوم بذلك كله على الوجه المطلوب.
عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما، فقال: "يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه الترمذي.
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبدالعزيز عليهما رحمة الله يقول: "لا تستعين بغير الله فيكلك الله إليه" وقال موسى عليه السلام لقومه: "استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يرثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".
ولقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم من أشد الناس تعلقا بربه جل وعلا، يلجأ إليه ويستعين به في جميع أحواله، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري وبك أقاتل"، ثم اعلم أن الاستعانة بالله تعالى من أهم صفات المؤمنين، بها يحقق العبد العبودية الحقه لله، ويظفر بحاجاته، ويستدفع البلاء والمصائب والفتن عن نفسه وعن أمته.
أيها المسلمون .. أما الوقفة الثانية: فهي مع الأمن، إن الأمن في الأوطان، والسلامة في الأبدان، أكبر نعمة وأعظم طلبة تسعى إلى تحقيقها الأمم والشعوب، ويطمح إليها الأفراد والمجتمعات على مر العصور، فهو سبيل الدعة والطمأنينة، وطريق الرخاء والاستقرار، ورغد العيش، به تعم البركات، وتصلح الأحوال، وتهنأ الحياة، ويعيش الناس في أمن وطمأنينة وراحة بال.
وهذه النعمة العظيمة تقوم على دعامتين أساسيتين هما: الإيمان بالله تعالى والاستقامة على العمل الصالح، ليقترن الأمن بالإيمان، فتتم النعمة، وتتجلى الكرامة، وتتحقق الحياة الهانئة "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اولئك لهم الأمن وهم مهتدون".
عباد الله .. إن الأمن لا يقدر بثمن، لما يغرسه في النفوس من اطمئنان وسعادة، ولما يجلبه لحياة الناس من رخاء واستقرار، وفي هذا كله ضمان للأمة من نقمتين عظيمتين، إنهما الخوف والجوع، اللتين يسلطهما الله تعالى على الكافرين الجاحدين لشرعه المتكبرين عن عبادته.
أما الوقفة الثالثة: فهي مع اللسان، ولسان الحال يقول هو الإعلام بشتى صوره ووسائله وطرقه، ولأجل هذا كان من أولى الاهتمامات في حياة المسلم حفظ لسانه إلا من الخير، وإطابة كلامه، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، قال علي رضي الله عنه: "اللسان معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل"، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "يا لسان قل خيرا تغنم، واسكت عن شر تسلم قبل أن تندم".
عباد الله .. إن عظماء الخلق، لهم الذين يلتزمون في أحوالهم جميعا ألّا تبدر منهم كلمة قبيحة، أو لفظة سائبة مغلوطة أو مكذوبة فيكونون بها السفهاء أو متطاولين على غيرهم، لأن الكلمة إذا خرجت من فم الرجل ملكته، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "إن أحق ما طهر الرجل لسانه.
عباد الله .. وإن من الناس من يعيش صفيق الوجه، شرس الطبع، منتن الفم خبيث اللسان، لا يحجزه عن كلام السوء حاجز، ولا يعرف للحسن سبيلا، لسانه مهذار، وفمه ثرثار، تعود على السباب والشتم واللعن والفحش والبذاء، حتى إن الكلمة الحسنة لو صدرت منه لعدت من الغريب النادر في حياته.
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وفي الأثر: "ما أوتي رجل شراً من فضل في لسان".
ألا فتقوا الله عباد الله وزنوا الأعمال قبل أن توزن، واحفظوا عليكم دينكم قبل أن تباغتكم الفتن .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
الوقفة الرابعة: مع العفو - أيها المسلمون .. لقد ندب الله تعالى عباده إلى العفو، وحثهم عليه، ووعدهم بجزيل الأجر والثواب، وجعل العفو في مقدمة صفات المتقين الصالحين من عباده، فقال سبحانه:"والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"، وقال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، وقال تعالى: "وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم"، وقال تعالى: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا ينفع قريب له ولا ينفق عليه شيئا، بعدما تولى نشر حديث الإفك في عائشة رضي الله عنها الذي افتراه المنافقون عليها، فلما نزلت براءتها، وأقيم الحد على من أقيم عليه، قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى، والله إنا نحب- يا ربنا- أن تغفر لنا، ثم رجع ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
ولا ريب في ذلك - عباد الله - فإن العفو كما قال غير واحد من أئمة السلف، أفضل أخلاق المؤمنين، وما أمر الله في أخلاق الناس مع بعضهم بمثل ما أمر به في العفو، ومن عُرف بالعفو عن الناس، والصفح عن زلاتهم ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه وإكرامه بين الأنام، وكثر أجره وإحسانه في الآخرة.
وهو صفة الأنبياء والمرسلين، فهذا نبي الله يوسف عليه السلام، ذُل بين يدي اخوته، وآذوه وفرقوا بينه وبين والديه، وأجمعوا على رميه في الجُب كي يقتلوه، ثم باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين، وحين مكنه الله في الأرض، فإذا صفات الكرم والعفو، والحلم والصفح تنهي الموقف في أبهى صورة: "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين"، ويتأسى به في فتح مكة، النبي صلى الله عليه وسلم، حين صارت رقاب المشركين الذين حاربوه وآذوه، وأخرجوه من بلده وطاردوه، ولم يدخروا سبيلا في إلحاق الضرر والأذى به وبأصحابه، حتى إذا أظهره الله عليهم، وأظفره بهم، تجلت في تعامله مظاهر الرحمة والعفو، وأخلاق النبوة والحلم التي لا يستطيعها إلا العظماء من الناس، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وصدق الله حين قال في وصفه صلى الله عليه وسلم: "وإنك لعلي خلق عظيم".
عباد الله ... وهنا تجدر الإشارة إلى أن المسلم مطالب شرعا وعقلا وفطرة بالدفاع عن دينه ووطنه وأمته أمام الأكاذيب والأراجيف، غير أنه يتميز عن الظالم المرجف بأخلاقه العالية وخصاله السامية، فلا تغيب عنه وهو في موطن الدفاع ورد الشبهات، أن يلتزم بالقيم والمبادئ التي سبق أن ذكرناها في وقفات هذه الخطبة، سائلين الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، ويسدد لما فيه الخير خطانا، وأن يرفع قدرنا ويعلي شأننا إذا ما جهل السفيه علينا.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.