إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"
ثم أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون .. إن الدنيا دار فناء وارتحال، لم تخلق للبقاء والدوام، وإنما هي منزل من منازل السائرين إلى الله، ومعبر إلى الدار الآخرة، يتزود فيها العباد لدار الخلود والبقاء، ويتهيؤون للعرض الأكبر على الله تعالى، وإن الناس - عباد الله – منهم من أعرض عن الآخرة، وفتنوا بالدنيا ونسوا ما ذكروا به ووعظوا، وأوغلوا في الغفلة والشهوات، وركنوا إلى الحياة الدنيا، حتى لكأنها هي الدار التي خلقوا لها، وأمروا بالعمل لها.
جاء في الحديث المتفق عليه عن زينب بن جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً عليه الصلاة والسلام وهو يقول: "ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه، الإبهام والتي تليها، قالت له زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر الساعة وأهوالها، وكان الناس يسألونه عنها، فيخبرهم أن علمها عند الله، وأنها قريب، وأن المطلوب من المسلمين والعباد الاستعداد لها بالعمل لما بعدها.
ولهذا عباد الله .. لما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال ابن كثير - رحمه الله -: "فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم عليه الصلاة والسلام، نبي الرحمة، ونبي التوبة ، ونبي الملحمة، والعاقب، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه مع قوله، فيما ثبت عنه في الصحيح: "بعثت أنا والساعة كهذه من هذه أو كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى"، ومع هذا كله قد أمره الله تعالى أن يرد علم الساعة إليه إذا سئل عنها، فقال سبحانه: "قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون"، وليس عباد الله هناك أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم في تقريب الساعة: "بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني".
عباد الله .. ولقد جلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته أمر الساعة، ووضح لهم في غير ما حديت أماراتها، ليكون الناس على بصيرة من أمر ربهم، ولا ينغمسوا في الغفلة حتى تأتيهم الساعة بغته وهم لا يشعرون.
قال سبحانه: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون"، وقال سبحانه: "وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد"، وقال سبحانه: "فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم".
عباد الله.. إن الإيمان بالساعة وأشراطها، والبعث والجزاء بعد الموت، والجنة والنار، وجميع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن الآخرة وأهوالها وأحوالها، وما يجري للعباد بعد الموت، كل ذلك وكن من أركان الإيمان التي لا يستقيم إيمان العبد إلا بالتصديق بها كما جاءت، إيماناً وتسليماً.
ومن الأحاديث الصحيحة التي بين فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة ما رواه البخاري عن رسول الله قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل - وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه عليه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس - يعني آمنوا أجمعون- فذلك حين "لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها". حديث صحيح رواه البخاري.
وفي صحيح البخاري أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت النبي في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: "اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا ".
ومن هذه العلامات، انتشار الربا وكثرته، حتى إن من لم يأكله لا يسلم من غباره، وظهور المعازف والقينات – أي المغنيات- واستحلالها، وكثرة شرب الخمر واستحلاله، وكذلك ظهور الفحش والبغضاء، وقطيعة الرحم وسوء الجوار، وكثرة الشح وكثرة التجارة، وذهاب الصالحين وارتفاع الأسافل، ومن هذه العلامات عباد الله: أن يكون السلام والتحية للمعرفة، والتماس العلم عند الأصاغر، ومنها التهاون بالسنن التي رغب الإسلام فيها، ومنها كثرة شهادة الزور وكتمان الشهادة والحق، ومنها كثرة النساء وقلة الرجال حتى ما يكون للخمسين امرأة ما بين أم وأخوات وزوجة وبنات وغيرهن ليس لهن إلا قيم واحد، ومنها كثرة موت الفجأة، واستحلال البيت الحرام وهدم الكعبة،
عباد الله .. وبين يدي الساعة سنوات خداعة يتهم فيها الأمين، ويؤتمن عليه الخائن، وينطق فيها الرويبضة، وهم الفسقة والسفهاء الذين يتكلمون في أمر العامة، وتضيع الأمانة فيوسد الأمر إلى غير أهلها، ويرفع العلم ويقبض العلماء، ويكثر الجهل ويوضع الأخيار ويرفع الأشرار، ويقربون، ويتباهى الناس في المساجد فيحسنون بناءها، ويضيعون الصلاة التي بنيت المساجد لأجلها.
كل هذه العلامات والأمارات ثبتت بها السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله ..الأمر خطير، والغفلة عظيمة، والساعة أدهى وأمر، "يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ".
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلون .. مع مرور السنين، وتعاقب الأيام والأعوام تكثر على المسلمين الفتن، وتعظم المحن، فيرقق بعضها بعضا، ولا تقوم الساعة حتى يتعاقب على المسلمين فتن ممحصة، وابتلاءات ماحقة، يمحق الله تعالى بها الكافرين، ويثبت بها المؤمنين.
وهناك فتنة عظمى، وبلية كبرى، ستمر على الناس طال الزمان أو قصر، ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة من فتنة إلا وهي تضع لها، لشدتها ولهولها، تلكم عباد الله هي فتنة المسيح الدجال، وما أدراكم ما المسيح الدجال! قد أنذرت به الأنبياء أممها، وحذرت منه أقوامها، ووصفته بالأوصاف الباهرة، وحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنذر، بل إنه ما كان يخاف على أمته عليه الصلاة والسلام أمراً أعظم من الدجال، وذلك لعظم فتنته، وكبير بليته على المسلمين.
روى في صحيح مسلم عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ : "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ ثُمَّ انْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، ثم رَجَعْنَا ، فَعَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ: "مَا شَأْنُكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ ، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ . قَالَ: " غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دونكم، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ".
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتخوفون الدجال، ويستعيذون بالله من فتنته العظيمة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما كانت ولا تكون فتنة حتى تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، وما من نبي إلا وحذر قومه الدجال".
ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، ومن هذه الإرشادات النبوية: التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان، ومنها التعوذ بالله تعالى من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة، فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاته فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال".
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ".
ومن هذه الأمور أنه ينبغي على كل مسلم لا سيما من عنده علم أن يبث أحاديث الدجال بين الناس، فقد ورد أن من علامة خروجه: نسيان ذكره على المنابر وفي الدروس والمحاضرات. فقد صح عند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر".
ومن هذه الأمور حفظ آيات من سورة الكهف، رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وفي رواية "من آخر سورة الكهف".
ثم اعلم يرحمك الله .. أن الإنسان إذا مات قامت قيامته، وأن لهذه القيامة أمارات، ومنها اشتعال الرأس شيبة، وتقوس الظهر وضمور العظام، فإن تعجب أخي الكريم فعجب من ظهرت فيه هذه الأمارات وهو لا زال لاهياً متصابياً، هذا مع العلم أن المنية وقدر الله سبحانه وتعالى في عبده لا يحتاج بالضرورة أمارة أو علامة، فكم من صحيح خطفه الموت وهو في ريعان شبابه.
فلنتقي الله ولنعلم أن أمر الله وحكمه بين الكاف والنون، ثم اعلموا عباد الله أن معظم ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أمارات الساعة ها نحن اليوم نراه متجلياً في حياتنا المعاصرة، فأحفاد الدجال بكل بوق ينعقون وفي كل واد بالأمة يهيمون، أما الرويبضة فذاك العجب العجاب، منهم اليوم المستشارون والموجهون، يعبثون بخاصة الأمة قبل عامتها، أما الفئتان المتقاتلتان فها أنتم ترون في كل بلد إسلامي من البحر إلى البحر، لا هم لهم ولا عداوة تحرق قلبهم إلا لجهة جارةٍ وشقيقةٍ، تارةً بأفكار شيطانية وأخرى بمكائد ومؤامرات خارجية، ولكم اقتتل مسلمان في أكثر من بلاد إسلامية فأحسن العدو إدارة الاقتتال وكان هو المستفيد الأول والأخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا من أيامكم لما أمامكم، واحذروا التسويف والغفلة، فقد نعى الله تعالى على المكذبين بالبعث والنشور، المعرضين عن الإيمان بالغيب والرسل بقوله: "فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً ۖ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ۚ فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ".
وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.