خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 21 صفر 1439هـ الموافق 10 نوفمبر 2017م بعنوان " والشريعة خير لهم لو كانوا يعلمون"

  16-11-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى:       

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله آتانا اليقين وهدانا الصراط المستقيم ووعدنا جنات النعيم، أحمده سبحانه وأشكره على تفضله بالبصيرة أرانا الحق حقا ومن علينا باتباعه، وأرانا الباطل باطلا وتكرم علينا باجتنابه، اللهم إنا نسأل الثبات على الأمر، وأشهد أن لا إله إلا وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

فيا أيها المسلمون .. أوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته ومراقبته والإخلاص له، فقد فاز من خاف ربه من فوقه وفعل ما أمر به "ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً".

عباد الله .. لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدنيا ستفتح على أمته، تفتح البلدان وتتسع رقعة الإسلام، فيخرج بعض الناس من المدينة النبوية مهاجرين منها إلى الدنيا يتركون مدينة رسول الله رغبة في الدنيا وطمعاً في متاعها. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، خير من الدنيا كلها ومتاعها، خير من ما في الأرض جميعاً، لما فيها من الخيرات والبركات الدنيوية وما يناله العباد من الأجور والثواب فيها، فهي مهبط الوحي ومسكن رسول الله، ومجتمع الإيمان، ومنشأ الإسلام تنزل فيها القرآن واجتمع على ترابها الصحب الكرام، وفي سمائها تنزلت الملائكة الكرام وإليها سوف يعود الإيمان ويجتمع فيها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحيّة إلى جحرها" رواه البخاري ومسلم.

أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس سيخرجون من المدينة مهاجرين إلى الدنيا ابتغاء متاعها وزخرفها ولو بقوا في المدينة لكان خيراً لهم، لأن المتاع زائل وهو مؤقت محدود، لكن زاد الآخرة باق مؤكد موجود، بل إن خيرات الدنيا ستجلب إليها لبركتها وكرامتها وهذا شأن كل شيء ارتبط بالله تعالى من الشريعة الإسلامية ومنهج النبوة وعباد الله الصالحين والمدن، فكل من ارتبط بالله مخلصاً فإن الله تعالى يكرمه بدفع كل خير إليه، وأمر كل بركة أن ترحل إليه.

يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا ستعجب الناس وتفتنهم لدرجة أنهم سيهجرون أو يتركون كل شيء بارك الله فيه، الدين الحنيف ومنهج الرسول الكريم والعبادات والزمن المبارك والوقت الفاضل والمدن والبلدان كمكة والمدينة.

كل ذلك يتركه الناس ويركضون وراء انفتاح الدنيا التي سوف تتزين لهم وتتلون ولا يبقى محافظاً على ما أرشد إليه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليل ممن هدى الله وحفظ من المسلمين.

أيها المسلمون .. أرأيتم هذا الخبر النبوي، فلو نزلناه على زماننا الذي نعيشه ووقتنا الحاضر، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإن الناظر في الدنيا وانفتاح المسلمين على الدنيا وموقفهم من الشريعة الإسلامية أمة مجتمعة أو أفراداً متفرقين، الجميع مبهور بدنياه مفتون بها.

فإن هجر الشريعة واضح ظاهر ومحاولة التخلص منها والبعد عنها سواء الحكم بتشريعاتها أو التحلي بحليها والتزين بآدابها وفضائلها، يهجرها الكبير والصغير ويخلع جلبابها الذكر والأنثى من أجل الدنيا والمتاع والانفتاح عليها حتى بدا المسلمون هاجرين لشريعة ربهم في أكثر نواحيهم وشؤونهم.

فالمسلمون اليوم هجروا الشريعة في كلامهم ولباسهم ومشيتهم وحديثهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم وشعارها ودثارها، والشريعة خير لهم لو كانوا يعلمون.

فمهما تزخرفت الدنيا للناس وتزينت وظن أهلها أنهم في أمن وأمان واستقرار ورخاء فإن الشريعة خير لهم مما يجمعون، وخير لهم مما يحصدون ويركضون وراءه ويلهثون ويحسبون أنهم به خالدون، وأنهم به لا يطرقون ويقصدون.

أيها المسلمون .. الشريعة خير لهم، هي الأمان والاستقرار والحفظ والسد المنيع "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"، "إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين".

الشريعة خير لكم بما تدعوكم إليه من اتباع السبيل واقتفاء الصراط المستقيم، وهجر السبل والطرق.

الشريعة خير لكم بما تبغضّكم فيه من الشهوات واتباع الشياطين ووسوستهم "وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم".

خير لكم شريعة ربكم فيما تبينه من الحق وتأمركم باتباعه وتزهدكم في الشر وتنهاكم عن الضر وتنصحكم باجتنابه.

الشريعة خير لكم فيما أرشدتكم إلى توحيد الله تعالى والاعتقاد الصحيح فيه ورسوله والقرآن والدين والصحابة، وما أوضحته من العقائد الفاسدة والسبل الملتوية.

الشريعة خير لكم أتباع الشريعة التي تدلكم على ما يحبه ربكم ويرضاه، من العبادات والطاعات والهدى والرشاد ومما يرفع الله به درجاتكم ويحط به خطيئاتكم.

الشريعة خير لكم، التدرع بالشريعة فيما توجهكم إليه من العمل والاستعداد والتزود لدار غير هذه الدار، دار فيها أهوال وفظائع العظام الجسام لا ينجو منها ولا يسلم إلا من استمسك بالشريعة وعمل بها واعتقدها.

الشريعة خير لنا معشر الأمة في مآلنا وعاقبة أمرنا، تعلمنا الآداب والأخلاق وتهدينا سبل السلام وتدلنا على معالي الهمم وعالي القمم، ويبارك الله لنا في الأعمار والأوقات والأرزاق، فالعيش الهنيء في ظلها والضياع والخسران في هجرها وتركها.

أيها المسلمون .. إنه لا يتذوق الحياة بطعمها الحقيقي إلا من اعتنق الشريعة وكرع من حياضها ورتع في رياضها، إن الحياة لذيذة عبقة، حلوة خضرة نضرة إذا أدارتها شريعة الله، ووجهتها العقيدة الحقة، واصطبغت بصبغة الدين الحنيف والملة الحنيفية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا" رواه مسلم.

والله إننا في أمس الحاجة إلى الشريعة لتهذبنا وترشدنا وقد اختلطت على أكثرنا الأوراق، وتشعبت على أكثرنا الطرق، وخلط بعضنا الماء باللبن، ونادت الأمة بإبعاد الدين عن الحياة وإدارة دفتها، وسمينا الحياة الخالية من الدين سميناها تقدماً وتحضراً، وسمينا التعري ثقافة وسياحة زوراً وبهتاناً، إننا في أزمة أخلاق وآداب بسبب استهتارنا بدين ربنا ونظرتنا للشريعة بأنها خاصة لمن تدين وتمسك ومن انحرف معتدلاً ولو كان فاحشاً بذيئاً.

أيها المسلمون .. إن هجر الشريعة الغراء بلوى أصابت أمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وما الذلة التي خيّمت على ديار المسلمين والمهانة التي يمارسها العدو إلا بسبب تعدينا للشريعة، ففي القديم والحديث والمعاصر ما هجر الشريعة أحدٌ إلا ذل وانتكس، فالرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد بالبقاء في أماكنهم يراقبون العدو، لما تركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا يجمعون الغنائم والدنيا، جاءتهم الهزيمة بعد وقت قليل.

وأهل سبأ لما لم يشكروا الله على النعم بعد ما أمروا بذلك بدّل الله عليهم وغيّر وجرفهم السيل العرم "كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل وخمط وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور". وكانت عاقبتهم كما قال تعالى "فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق" وهذه عاقبة كل من أعرض عن شريعة الله.

وأهل مكة حين جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً منهم ينصحهم ويهديهم، كذبوه وطردوه وحاربوه وأهانوه ورفضوا دعوته ودينه، فبدّل الله عليهم حتى جاعوا فأكلوا جلد الميتة وشعر الإبل والتهموا التراب، وعميت أعينهم وهم يطالعون في السماء يرجون قطرة من ماء.

عقوبة على هجر الشريعة وطرد رسول الله وسجل الله تعالى عليهم حالهم وما حدث لهم لتكون الآية عبرة وعظة لمن يأتي من بعدهم "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون".

أيها الأخوة في الله .. إن هجر الشريعة بلاء كبير وشر مستطير لأنها تهذب العباد وتبارك في البلاد، فإذا غابت أو غُيّبت الشريعة أصبح الناس فوضى لا تحكمهم الأخلاق ولا الآداب، وبهجر الدين والشريعة يضيع كل شيء ويذهب كل شيء.

وإذا رأيتم أقواماً يهجرون شريعة الإسلام فارتقبهم فإن العذاب في طريقه إليهم قديماً وحديثاً، وللأسف أن العذاب والبلاء إذا نزل تسابق إلى تفسيره من لا عقيدة عندهم ففسروه تفسيراً دنيوياً بحتاً خاوياً كما يحدث لكسوف أو خسوف الشمس أو القمر.

إن هاجر الشريعة والباحث عن الأمان في غياب الشريعة كالذي يركض وراء السراب يحسبه ماء.

إن الله تعالى حليم على عباده، يمنحهم الفرص ليتوبوا ويرجعوا، يمهل ولا يهمل، ولو يؤاخذهم من أول وهلة، ما ترك على وجه هذه الأرض أحداً يمشي، ولكن رحمته وسعة حلمه سبحانه وتعالى.

إن  إمهال الله تعالى لمن هجروا الدين استدراج منه سبحانه، حتى يزدادوا في غيهم وتوغلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم أن كيدي متين".

في هجران الشريعة العذاب الدنيوي والنفسي والاكتئاب والتحطم النفسي والانتحار وزهق الأرواح والفشل في كل  الأمور، فعضوا على شريعة ربكم معشر المسلمين فإن الله تعالى يريد بكم الخير عندما شرعها لكم وأرسل لكم أشرف رسله فاستمسكوا بالشريعة علموها أبناءكم واهتموا بها، واعتنوا فهي والله عزكم وسعادتكم وشرفكم ونجاتكم.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن يحفظنا وإياكم من هجر الشريعة، إنه سبحانه قريب مجيب. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أمة الإسلام .. اتقوا الله تعالى في أنفسكم، اتقوا الله تعالى واشكروه على نعمته، واحذروا عباد الله من تبديل دين الله أو إبعاد كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن الأمة يا عباد الله قد تقع في الذنوب والمعاصي وتقر بأنها ذنوب ومعاصي قد تتوب منها، أما أن تعلن الأمة أنها سوف تبعد الشريعة وأنها لا تريد شريعة الله فهذه هي البلاء التي ليس بعدها إلا العذاب الأليم.

عباد الله .. إن الإنسان في هذه الدنيا مؤقت مؤجل  وسوف يرحل إلى رب الشريعة وسوف يعود الإنسان إلى رب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وسوف يعود الإنسان إلى ربه الذي قال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".

إن الاعتقاد في أن التقدم والتحضر والوصول إلى الغايات والأهداف في إبعاد دين الله أو في هجران سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه عقيدة فاسدة، وهذه جرأة على الله.

والله لن تتقدم أمة ولن يتقدم شخص ولن يبلغ إنسان غايته وهدفه ومناه ما دام يحارب الله تعالى. وقف في وجه شريعة الله فرعون قال: "أنا ربكم الأعلى"، وقال" ما أريكم إلا ما ارى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، حتى إذا أدركه الموت وجاءت ساعته ليلقى ربه كافرا ذليلا "قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين"،  قال الله له "الآن

فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون" صدق الله العظيم.

وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون! كم من الغفلة عن آيات الله الكونية؟ هذا فرعون الآن موجود في المتاحف ينظر إليه الناس، هذا الذي كان بالأمس يقول أنا ربكم الأعلى، ومن أمثال فرعون الفراعنة إلى يومنا هذا، أين ذهبوا؟ وأين مشاريعهم؟ وأين محاربتهم لدين الله تعالى وللرسل؟.

ما اعتقد أحد عباد الله أنه سيصل إلى المعالي وإلى التحضر والتقدم في ظل إبعاد دين الله أو شريعة الله إلا خاب وخسر.

والله لن تبلغ أمة ولا شخص في هذه الدنيا شيئا يريده الله عز وجل " وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون"، فلا تغفلوا يا عباد الله.

إن طرد الشريعة أو هجران الدين بلاء كبير، محمد صلى الله عليه وسلم جاءه التحذير من ربه عز وجل قال لله عز وجل له وللأمة من بعده وللناس أجمعين إلى يوم الدين قال له: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين"، ثم قال الله له "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين"، والوتين عرق متصل بالقلب إذا انقطع يموت الإنسان فورا.

هذا التهديد لمحمد صلى الله عليه وسلم "ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبد وكن من الشاكرين"، وهذا التحذير أيضا لمن دون رسول الله إلى يوم الدين.

فيا أمة الإسلام .. شيء اسمه طرد الشريعة أو إبعاد الشريعة من المشاريع الحسية والمعنوية، بلاء عريض يخسف الله الأرض ومن عليها بسببه فاحذروا يا عباد الله.

الناس تخطئ وهي تعترف أنها أذنبت وأخطأت فتعترف أنها أخطأت وأذنبت وترجع إلى الله وتتوب، أما أن تجاهر الناس أو الأمة بطرد الشريعة أو الدين طمعا في متاع دنيا أو زخرف من زخارفها أو طاعة للاعق من هنا أو هناك، أو استجابة لصارخ، هذه لن تغني عن صاحبها شيئا.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظ علينا وعليكم ديننا وإيماننا وإسلامنا.

 

طباعة