خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 28 صفر 1439هـ الموافق 17 نوفمبر 2017م بعنوان "المسلم بين الابتلاء والصبر"

  21-11-2017

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون .. من تمام نعمة الله تعالى على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر، والبلاء والمحن، والأمراض والأسقام ما يلجئهم إلى توحيده والرجوع إليه، فيدعونه تعالى مخلصين له الدين، يرجونه ولا يرجون أحدا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، ويحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الشده والضر.

وإنما يعرف قدر البلاء إذا انكشف الغطاء يوم القيامة، كما روى جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- انه صلى الله عليه وسلم قال: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"، وجاء أيضا عند البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يصب منه".

وفي هذا عباد الله، نعمة عظيمة من الله تعالى على عباده، ليمتحن صبرهم، ويسمع تضرعهم، ويخوفهم وعيده، فلولا البلاء لبطر العبد، وبغى وطغى، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه. 

يقول القائل:

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت   

 ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

قال الحسن البصري -رحمه الله- في أيام الوجع "أما والله ما هي بشر أيام المسلم، أيام قورب له فيها أجله، وذكر فيها بشيء من معاده، وكفر بها من خطاياه"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد، ليس كل من مرض مات، قال سبحانه: "أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون".

وهناك عباد الله من ضعفاء الإيمان من يتسخطون على القضاء والقدر، ويتهمون الله سبحانه في قضائه، ويدعون بالويل والثبور عند أدنى نازله، وأقرب مصيبة، وما علموا أن ذلك أنموذج لعقوبة المخالف، وتمحيص المؤمن، كما قال سبحانه: "وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين". 

روي أن أعرابية من البادية دخلت على قوم، فسمعت صراخا في دارهم، فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان! فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون!.

عباد الله .. احتساب المصيبة عند الله، والصبر عليها، علامة من علامات كمال الإيمان، والجزع والسخط عليها دليلان على ضعف الإيمان، فمن حسن التوفيق للعبد وأمارات سعادته الصبر على الملمات، والرفق عند النوازل، وبه نزل الكتاب وجاءت به السنة: قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون".

قال الإمام أحمد:"الصبر في القرآن نحو تسعين موضعاً، وهو واجب بإجماع الأمة، وهو  نصف الايمان؛ فإن الايمان نصفان؛ نصف صبر، ونصف شكر"، ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "خير عيش أدركناه بالصبر"، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للأشعث بن قيس رضي الله عنهما: "إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور"

وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أن الصبر ضياء"، وأخبر أن الصبر بالتصبر، وأنه خير كله، وأنه أعظم عطاء يُعطاه العبد، في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر"، وأمر صلى الله عليه وسلم بالصبر عند المصيبة، وقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، ولما سئل عن الإيمان كما عند أحمد وغيره قال: "الإيمان: الصبر والسماحة".

وهذا بيان جامع لمقامات الإيمان، فإن الايمان خصلتان، إحداهما بذل ما أمر به وإعطاؤه، وهذا إنما يحمل عليه السماحة، وثانيهما: ترك ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه والبعد عنه، وهذا إنما يحمل عليه الصبر. 

عباد الله .. وقد أمر الله تعالى عباده بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصبر الجميل: هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل: هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل: هو الذي لا أذى معه".

عباد الله .. والصبر عليه ثلاث انواع، صبر على طاعة الله تعالى، وصبر على معصية الله سبحانه، وصبر على امتحان الله بأقداره، وأعظم أنواع الصبر، الصبر على طاعة الله، لأن في العبادات مشقة على النفوس التي تريد الراحة والدعة، "إنما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب". 

يلي ذلك في العظمة الصبر على معصية الله، لأن فيها كبح جماح النفوس عن شهواتها، وامتثالها لأمر ربها ونهيه، ثم الصبر على أقدار الله تعالى ومصائب الحياة، وفواجع الدهر، جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا ، إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا " قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ ، قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلم، ثم اني قلتها – أي قلت الدعاء - فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تعالى في سورة البقرة: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ".  

عباد الله .. والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، لأن مفاتيح الفرج بيد الله، فلا ينافي الصبر توجع القلب، ولا فيضان العين بالدمع، لأن ذلك مقتضى الطبيعة البشرية، ولهذا لما مات إبراهيم ولد النبي دمعت عيناه وقال: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا=، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون". 

ولما رفع صلى الله عليه وسلم ابن ابنته إليه فاضت عيناه ، فقيل له في ذلك فقال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". 

وإنما عباد الله .. إنما ينافي الصبر شكوى الله إلى الناس، والتذمر على قضاء الله وقدره، وعدم الرضا به. 

رأى أحد السلف رجلا يشكو فاقته وضرره إلى آخر، فقال: يا هذا !! تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ ثم أنشد يقول:

وإذا اعترتك بلية فاصبر لها 

صبر الكريم فإنه بك أكرم

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما

تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية: 

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله واشكروه واستعينوا به واستغفروه، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.

ثم اعلموا رحمكم الله، أن المسلم حين يتأمل في حياته وما يعتريها من عوارض وأحوال وكوارث ونكبات، يجد الصبر ضرورة حياتية لكل عملٍ من أعمال الحياة سلباً كان أو إيجاباً، فكسب الرزق والعمل ومعاملة الناس، والقيام بالواجبات الشرعية،  والكف عن المحرمات والمكروهات، والجهاد في سبيل الله، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها، وتحمّل تكاليفها، كل ذلك يحتاج إلى الصبر والمصابرة بل يحتاج إلى الجهاد والمجاهدة.

يقول سبحانه: "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"، ويقول ابن المقفع: "الصبر صبران، فاللئام أصبر أجساماً، والكرام أصبر نفوساً، وليس الصبر الممدوح صاحبه، أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والعمل، ولكن أن يكون للنفس غلوباً، وللأمور متحملاً، ولجأشه عند الحفاظ على ذلك مرتبطاً".

عباد الله .. فقد شاء الله عز وجل أن يجعل الطريق الموصل إليه والمؤدي إلى جنته ورضوانه محفوفاً بالمخاطر، مملوءاً بالأشواك والصعاب، تدوي بين جنباته صرخات الأبرياء، وآهات ‏المستضعفين، وضحكات المفسدين المجرمين، وسخرية الساخرين، واستهزاء المستهزئين، وهو سبحانه وتعالى لا يريد بذلك العنت والمشقة لأوليائه ولا عباده الصالحين، ‏كلا !! ولكنه سبحانه أراد بذلك تمحيص الصفوف، وتنقية الأبدان، وتطهير العباد من دنس الذنوب والمعاصي، ليرفع لهم الدرجات، ويتجاوز عن السيئات، "وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين". 

والأنبياء هم القدوة في الصبر على البلاء، فطريقهم شاق وعسير، تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، ‏وبيع يوسف بثمن بخس دراهم معدودة، والبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد بن عبد الله - عليهم جميعا صلوات الله وسلامه - ‏فخاطبه ربه بقوله تعالى: "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ".

روى أحمد وابن ماجة والترمذي  عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ  قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: "أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : " الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ"، قَالَ: "يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، فَلا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الأَرْضِ وَمَا لَهُ خَطِيئَةٌ )

‏ألا فاتقوا الله عباد الله، اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. 

"إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

طباعة