خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 20 ربيع الأول 1439هـ الموافق 8 ديسمبر 2017م بعنوان "أسباب النصر والأقصى"

  25-12-2017

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون .. إن المرء حين يتأمل واقع المسلمين في هذه العصور المتأخرة يصاب بالذهول والخيبة، وهو يرى بطولات النصر الماضية قد تحولت إلى هزائم متتابعة على أمة الإسلام، ومظاهر العزة والكرامة التي حازها أسلافنا المسلمون فيما مضى قد عادت ذلاً وهواناً يخيم على ديار المسلمين وأوطانهم.

وبعد أن كانت أمة الإسلام بالأمس القريب أمة عظيمة مهابة الجناب، رفيعة الجناح، مصونة، تحكم العالم، وتهزم الكفر، وتصون الحمى، وتجيب النداء، فتنتصر للمظلوم، وترد العدوان، وتكسر الظالم. تبدل حالها، فصارت أمة مهانة ذليلةً، مهدرة الدماء والحقوق، مستباحة الأعراض والحمى، تقتات على موائد الغرب، وتهزم أمام لصوصه وشرذمته! 

ترى عباد الله .. ما الذي حل بالأمة حتى هوت من عليائها، وتخلت عن قوتها، وتبعثرت وحدتها، وتكالبت عليها الأمم، فسلب الأعداء خيراتها، وعبثوا بحرماتها، وتعددت مصائبها ونكباتها، وتلونت جراحها ومآسيها، فطمست معالم ماضيها حتى كأنها لم تكن يوماً أمة العزة والقوة وصاحبة الملك والدولة ؟!

وكم يتمنى المرء عباد الله أن يفتح عينيه على بلاد الإسلام الواسعة فيرى الغمة قد كشفت عن الإسلام والمسلمين، والدماء المسفوحة قد وقفت، والجراح الأليمة قد كفكفت، ويد العدو الغاصب قد بترت، ورايات النصر قد ارتفعت ورفرفت، ولكن الأماني عباد الله وحدها ما لم يكن لها سند من العمل الصادق النافع فلن تؤتي ثمارها أبدا.

ونحن أيها المسلمون .. إن أردنا العزة والكرامة، وإنقاذ الأمة مما هي فيه من ذل وهوان، ونكبات وجراح، والعودة بالأجيال المسلمة إلى منصة النصر والريادة، فلا بد أن نشخص الداء، ونعرف الأسباب، ونصف الدواء الناجع بإذن الله، فإنه ما من داء إلا وله أسباب ومؤثرات.

عباد الله،.. لقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض، ووعد الله تعالى حق لا مرية فيه، قال تعالى: "وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، والتاريخ عباد الله خير شاهد لا يكذب، فما ساد المسلمون وعزوا عبر التاريخ، ولا انتصروا في معاركهم على أعدائهم، ولا ردوا حملات الأعداء المتتابعة على بلاد الإسلام، ولا استردوا بيت المقدس من أيدي الصليبيين، بعدد ولا عتاد، إنما سادوا وعزوا، وانتصروا وظهروا بالله سبحانه تعالى، ثم بما معهم من إيمان وصدق، وأخلاق وثوابت، وإيثار للآخرة على الدنيا، ورغبه فيما عند الله. 

وإن أمة لا تعرف إلا الله لن يغلبها أبدا من لا يعرف الله، وإن أمة تعرف الله تعالى ثم تترك أمره، وتتنكب عن صراطه، وتستبيح محارمه لخليقة بأن تهزم أمام ضعاف البشر، وأرذل الجيوش، وأن يسلط عليها عدوها، تلك سنن الله سبحانه وتعالى ونواميسه في أرضه وخلقه، التي لا تتبدل ولا تتخلف، ولا تحابي أحداً، قال تعالى: "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا".

عباد الله .. لقد قرر الله تعالى في كتابه الكريم أسباب النصر والهزيمة، فقال سبحانه: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ"، فمن نصر الله، نصره الله، ومن خذل الله خذله الله، ونصر الله تعالى إنما يكون بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ونصر دينه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما نصر دين الله تعالى بأعظم من الابتعاد عن المحارم، وإظهار شعائر الدين العظيمة، وإقامتها على الوجه الصحيح.

ولا تختلف عنها أمة من الأمم، وتفرط فيها مجتمع من المجتمعات إلا خذله الله، وسلط عليه الأعداء، ووالى عليها الضعف والهوان من حيث لا تشعر.

روى أهل السير أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما فتح المسلمون قبرص، بكى بكاء شديدا رضي الله عنه فقيل له يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال رضي الله عنه: ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. 

يقول سبحانه: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". 

عباد الله .. نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد التي أصيب المسلمون فيها إصابات بالغة في أنفسهم وفي نبيهم وفي دينهم، كدرت فرحة النصر العظيم في بدر على المسلمين وعلى لاصحابة، وظنوا أنهم لن يصابوا بالهزيمة بعد ذلك النصر العظيم في بدر حتى قال قائلهم: لن نغلب اليوم في قلة. فقدر الله عليهم ما أصابهم من المشركين فلما أخذوا يتلاومون فيما بينهم أنى هذا؟ من أين أتى لنا هذا؟ جاء الجواب من عند الله تعالى في خمس كلمات: "قل هو من عند أنفسكم" لم ينسب في كلمة واحدة سبب الهزيمة إلى الجيش ولا إلى عدة، ولا مقدرة على قتال، ولا إلى عدو، بل نسبه إلى أنفسهم، وهي قاعدة عامة عباد الله تتكرر في حياة المسلمين أن ما أصابهم من هزائم ونكبات وبلايا ومصيبات فهو من عند أنفسهم وبما كسبت أيديهم.

وثَمّ سبب عظيم من أسباب الهزائم المتكررة على المسلمين في أعقاب الزمان، وهو أن الأمة إنما أصيبت بالضعف والهوان وجانبت طريق النصر والعز والتمكين، حين تفرقت شيعاً وأحزاباً، وجماعات وأطياف تتقاتل فيما بينها على أتفه الأمور وأصغرها، دون أن تلتفت إلى مصلحة الأمة الكبرى في الاجتماع ضد العدو المتربص بها من كل جانب. 

نعم أيها المسلمون .. لابد للأمة إن أرادت النجاة والنصر على أعدائها أن توحد صفوفها، وتجمع كلمتها على الإسلام وحده، وأن تتناسى خلافاتها وصراعاتها فيما بينها، حفظاً لما تبقى من كرامة الأمة، وصيانة لدمائها وأعراضها ومقدراتها ، فالأمة إن لم يجمعها الحق شعّبها الباطل، وإن لم يوحدها الإسلام فرقها الأهواء والشيطان، وفي التفرق والاختلاف يكون الضعف والهوان والفشل، وقد قال سبحانه: "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ".

عباد الله .. وإذا أراد العدو بأمة سوء سعى لبث روح التنازع والشقاق، والفرقة والخصام، كما هو واقع بالأمة اليوم، مع شديد الأسف، والأمة التي تريد مواجهة عدوها تحتاج إلى نبذ خلافاتها وتوحيد راياتها، والنظر بعين واحدة إلى العدو المتربص بها، المترقب لزلاتها، حينها تنتصر وتهاب، فيد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، كما ثبت من قوله سبحانه وتعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا".

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية: 

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه،اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى أله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله .. فوا أسفاه على واقع المسلمين المشين، وتخاذلهم المهين، وإلى الله نشكو جلد الفاجر، وعجز الثقة، أكثر من مليار مسلم ونصف، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، ضعفت في نفوسهم الثقة بربهم، وابتعدوا عن شرعه وأمره ونهيه، وانتزعت من صدور عدوهم المهابة منهم، فأصابهم مرض حب الدنيا وكراهية الموت، وهو الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، حين قال: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت".

عباد الله .. لقد هانت الأمة المسلمة على ربها ثم هانت على أعدائها، حيث ظهر فيها تفرق الكلمة، واختلاف الأغراض، وتجاذب الأهواء، حتى برزت الأحقاد، وشُغل البعض بالبعض، وظهرت الفرق والقوميات المتعددة بمذاهبها ومشاربها المتباينة، فانصرفت الأمة عن قضاياها الكبرى وتخاذلت عن نصرة أبنائها الذين يستغيثون بها في كل يوم ولا مجيب، وتمكَّن الأعداء المتربصون بهذه الأمة من هزيمتها في جميع الميادين.

وها هم المسلمون، يجنون ثمار صمتهم الجبان، وسكوتهم الذليل عن نصرة إخوانهم والدفاع عن قضاياهم، وها هي بلاد الإسلام عباد الله كل عام تحت كارثة، ومحنة جديدة، بدلاً من التخلص من الكوارث والنكبات السابقة، والسبب واضح وضوح الشمس، هو بُعد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم، وإقصاء شريعة الله، وترك الجهاد في سبيل الله، والغفلة عما يحاك ضدهم، وما يدبَّر لهم من قبل أعدائهم. 

عباد الله .. ها هي بلاد  الشام - عباد الله- بلد المقدسات، ومهد النبوات، بلد مبارك فيه، أولى قبلة في الإسلام، وفيها ثاني مسجد بني في الأرض، وهو المسجد الذي بناه نبي الله سليمان عليه السلام، وسكنه الأنبياء من بعده، وصلوا فيه، وأسري برسولنا محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وصلى بالأنبياء فيه، ليكون ذلك إيذاناً بأن الإسلام سيدخله، ثم شرع المسلمون في فتحه زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستكمل ما بقي في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي تسلَّم مفاتيح بيت المقدس، ورفع بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت الحق من على مئذنته، في مشهد عظيم، وجمع غفير من صحابة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم.

ثم جدد بناءه الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك على ما هو معروف الآن، وحافظ المسلمون عليه عبر العصور، مصوناً في ظل الإسلام عبر القرون، حتى شاء الله تبارك وتعالى وله حكمة أن يصير في أيدي الغاضبين، ليدنِّسوا أرضه المباركة الطاهرة، وليعيثوا فيه وفي أرضه الفساد، وليسوموا المسلمين من حوله سوء العذاب.

‏عباد  الله .. لقد خُدع العرب ومن يدعون الإسلام بالسلام مع الأعداء، وصدقوا عهودهم الزائفة، ووثقوا في مواعيدهم الكاذبة، وسلامهم المعسول، وتغافلوا عن قوله سبحانه وتعالى الذي قال في كتابه: "أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" .

‏‏ضيع المسلمون المسجد الأقصى، وغفلوا أو - تغافلوا- عنه، وتركوه أسيراً في قبضة الغاصبين.

عرب وأجمل ما لديكم أنكم 

سلمتمونا أمركم وغفلتموا 

ماذا دهاكم تطلبون حقوقكم

طلب الحقوق من الضعيف محرم

نحن الذين نقول أما أنتموا 

فالغافلون الصامتون النوم

عباد الله .. ‏أنا جسد هذه الأمة المسلمة جسد مثخن بالجراح والطعنات، وإن الصفعات التي تتعرض لها أمتنا كل يوم لا تزيدها - مع الأسف - إلا بعداً عن الله، وإقصاءً لدينه، وغفلةً عنه، وتفرقاً وخلافاً فيما بينها، فالله المستعان وإليه الشكوى.

‏عباد الله .. إن الصراخ والنواح، والشجب والاستنكار لا يرفع ظلماً، ولا يرد مغتصباً، ولا يحمي أحداً، ولا يقمع عدوا، إنما هو حيلة الضعيف الجبان، ما لم يتوج بالعمل والأفعال، وإنه لا عزة لجبان، ولا حياة لضعيف، وسيجني المسلمون آثار هذا السكوت المرير، والتخاذل المشين عن نصرة قضاياهم والوقوف في وجه عدوهم علقماً مريراً. 

‏عباد الله .. اعلموا أن النصر من الله سبحانه وتعالى وقد وعد عباده وسيأتي ذلك اليوم بإذن الله، ولكن بعد أن يعود المسلمون إلى دينهم، ويعتزوا بإسلامهم، ويجاهدوا أعدائهم، وفرق كبير بين من يكون النصر على يديه ومن يسير في الركب كسقط المتاع، لا يؤبه به ولا يهتم بأمره، قال سبحانه وتعالى "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ".

طباعة