خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 3 ذو الحجة 1438هـ الموافق 25 أغسطس 2017م بعنوان "فضل العمل الصالح في العشر من ذي الحجة"

  18-01-2018

  

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم المنان المتفضل على عباده بمواسم الطاعات والإحسان، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وسلم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كيرا أما بعد.

فيا أيها المسلمون .. أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته وشكره وعبادته ومراقبته.

عباد الله .. من أجلّ النعم التوفيق للعمل الصالح، والالتفات له وعمله والمسارعة إليه واغتنام أيامه وأوقاته ومواسمه والتزامه والاستمرار عليه حتى ينزل بالإنسان أجله "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" ومن الخذلان والحرمان أن يبقى الإنسان في هذه الدنيا معرضاً عن العمل للقاء الله، يمرر أيامه وأوقاته حتى يهجم عليه الموت "فيقول ربي لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين".

أيها المسلمون .. إننا نعيش في أزمنة كثرت فيها التحولات والتغيرات والفتن وتفرغ الأعداء أكثر من ذي قبل لإغواء أهل التوحيد والإيمان والسعي لإضلالهم وتعكير حياتهم وإفسادهم، وإن بلاءهم هذا وفتنتهم لا يدفعها إلا الله ثم العمل الصالح الخالص له.

إن العمل الصالح عدة المؤمن في هذه الحياة والحياة الأخرى، وسبيل كل مخلص وذخيرة كل خائف وأنيس في الدنيا والآخرة "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"

وهو أنيس في القبور والوحشة والظلمة البرزخية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس ... حتى قال عليه الصلاة والسلام: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح" رواه أحمد وصححه الألباني في الجنائز.

أيها المسلمون .. في القرآن الكريم أكثر من خمسين آية تبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الدنيا والآخرة وتبين لهم ما ينتظرهم في القبور ويوم النشور وقبل ذلك في حياتهم الدنيا من الطيبات والبركة والخيرية ، مثل قول الله تعالى "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم". وقوله "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".

ويقول عز وجل "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا..."، آيات بينات للذين آمنوا وعملوا الصالحات، مرةً تبشرهم بالجنة والرضوان ومرةً بالأجر العظيم وبمنازلهم في الجنة وحسن العاقبة والهداية والحفظ والتمكين في الأرض والحياة الطيبة وتكفير السيئات والأمن من يوم يفزع الناس، والنجاة والفوز يوم يخسر الناس، وأنهم الهداة المهتدون خير الخليقة "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية"، وسوف يجعل لهم مودة ومحبة في قلوب الناس "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّا".

أيها المسلمون .. كل الناس يوم الدين في خسارة فادحة تناديهم النار: هلمّ إليّ فأنت من أهلي وهي تتوقد يأكل  بعضها بعضاً حتى اشتكت إلى ربها: يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير .. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم ناجون منها سالمون من الخسارة فائزون بالجنان والرضوان الأبدي الدائم الذي لا ينقطع.

والعصر هو الدهر والوقت والعمر الذي هو محل أفعال الإنسان عمره في الدنيا، إن كل بني الإنسان خاسر خسارة أبدية خالدين فيها لا يفتر عنهم العذاب وهم فيه مبلسون، يائسون من النجاة، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات منّ الله عليهم بإيمانهم وعمل الصالحات منّ عليهم بأربعة أمور كانت سبباً في نجاتهم وهي الإيمان بالله ورسوله والعمل بهذا الإيمان والتواصي بالحق والاستمساك به والصبر عليه رغم ما يصيبهم ويأتيهم من العدوان والطعون والتهم بسبب التمسك بالحق وعدم مغادرة ساحته وعدم الاستجابة لدعوات المغرضين التي تعيّرهم وتطعن فيهم للتغيير والتحول.

فأثابهم الله تعالى بما قالوا وما عملوا نجاة وسلامة وعافية وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين.

أيها المسلمون .. العمل الصالح نعمة مهداة ومنّة مسداة من ناله فقد أراد الله به خيراً، يقول عليه الصلاة والسلام "إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، فقيل كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت" رواه الترمذي وحسنه.

حث الله تعالى عليه أنبياءه وعباده المؤمنين كما قال "يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم"، "يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".

إن الحياة الدنيا لا يلتذ بها إلا بالعمل الصالح، لأن العبد إذا صلح عمله بإخلاصه لربه، هيأ الله تعالى له أسباب العافية ويسر له أموره وطمئن قلبه وأعانه ودفع عنه الشرور والأشرار، وبارك له في نفسه وماله وولده "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون"، وإذا أقبل على الأخرة وقد عمل الصالحات فله الدرجات العلا والرضى "ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى"، "من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون".

ومن اتخذ الحياة الدنيا لهواً ولعباً وشهوات ومتابعة النفس الأمارة بالسوء فقد تعهد الله تعالى ألا يجد لذتها وأنسها فقال تعالى "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا... يعني ضيقة وإذا أقبل على الآخرة فإذا بالوعيد والتهديد يطارده "إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا..."

أيها المسلمون .. إن من عجائب العمل الصالح وكبير غرائبه أن يتمناه الكافر ولا يتمنى غيره ولكن بعد ما فاتت عليه الفرصة يتمنى الرجوع إلى الدنيا وهو في الاحتضار وعند حشرجة الروح ليعمل صالحاً فقط لا لا يريد شيئاً من متع الدنيا حتى أنه لم يتمنى مالاً ولا ولداً ولا صاحبة ولا شيئاً من الدنيا سوى أن يعمل صالحاً بعد أن تبينت له الحقيقة، يقول الله تعالى "حتى إذا حضر أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون"، كما يتمنى الكافر العمل الصالح وهو يتقلب في النار وقد تبين له كل شيء وأيقن أنه لا ينقذ من النار إلا العمل الصالح بعد الإيمان ولكن كفره أرداه فأصبح من الخاسرين ، يقول الله تعالى "وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل"، فجاءهم الرد: "أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير".

أيها المسلمون .. في دنيا الناس من يشتكي عسر حياته وتبعثر أوقاته وتحطم نفسه واختلاط أوضاعه وقلة توفيقه كما يشتكي أخرون من ضيق في نفوسهم واضطراب في قلوبهم وخوار في عزائمهم وفشل في مشروعاتهم وما علموا أن دواء هذه في الارتباط بالله والعمل الصالح، ما علموا أن الارتباط بالله حقيقة يدفع هذا ويستبدله بكل خير وعافيه "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة".

أيها المسلمون .. نحن في أخصب مواسم العمل الصالح عشر دي الحجة وما أدراكم ما عشر ذي الحجة؟ من رفعتها وأهميتها أقسم الله بها، والقسم بالشيء تعظيم له، ولك أن تقف على المقسم وهو العظيم الجليل رب العرش العظيم "والفجر وليال عشر"، وفي قوله "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة" قال ابن عباس رضي الله عنهما هي عشر ذي الحجة.

لقد ملأ الله تعالى هذه العشر بالأعمال الصالحة حتى عدها بعض السلف أفضل من العشر الأواخر من رمضان ، يقول رسول الله "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتكبير والتحميد" رواه أحمد.

وقال "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني العشر – قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري

هذه العشر فيها الصلاة والدعاء والصدقة والصيام والبر والإحسان والتسبيح والذكر ويوم عرفة وصلاة العيد والأضحية وأداء ركن الحج ولو لم يكن فيها إلا يوم عرفة لكفاها شرفاً يقول صلى الله عليه وسلم "صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" رواه مسلم.

ويوم عرفة يوم اعلان التوحيد لله تعالى يقول عليه الصلاة والسلام "خير ما قلت أنا والنبيون قبلي يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"،  وهو يوم إكمال الدين "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" ويقول "خير الدعاء دعاء يوم عرفة" ويقول "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء" رواه مسلم.

وفي هذه الأيام الإكثار من الذكر، يقول عليه الصلاة والسلام "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك، وقال "من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه وأن كانت مثل زبد البحر"، فاغتنموا أوقات العمل وفرصة الحياة للتزود للأخرة فلا بد من الفراق والموت والقبر ولقاء الله فأعدوا للسفر عدته بالمسارعة إلى الخيرات واغتنام أيامها وخذوا منها ما يكون سبباً في بركة الأعمار وسعة الأرزاق وسلامة الأبدان ونزول العافية والسلامة من كيد المغرضين والفاسدين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم "فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وفي هدي رسول الأمين، وتاب علي وعليكم وعلى المسلمين، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. ها هو الله تعالى يتفضل عليكم بهذا الموسم المبارك العظيم فأروا الله من أنفسكم خيرا، لا تلهينكم الدنيا ولا يلهينكم ما يجري في ساحة المسلمين، من فرط عباد الله في رمضان ومن فرط فيما يجري بين المسلمين فعليه أن يتوب إلى الله تعالى في مثل هذه الأيام، ويسارع إلى مرضات ربه عز وجل ويغتنم ما تفضل الله به في هذه الأيام العشر.

سارعوا إلى مغفرة من ربكم " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ، أعدت للمتقين "، كن عبد الله في كل عمل صالح وفي حالك في هذه الأيام، كن مع الصائمين إذا يسر الله له، ومع المصلين ومع الداعين ربهم عز وجل، ومع المستغفرين المسبحين الذين يحمدون الله تعالى.

كن مع إخوانك المسلمين في دعائهم ليكشف الله تعالى الغمة عنا وعنهم، كن مع إخوانك المسلمين المصلين الركع في بيوت الله تعالى، كن عبد الله الذي يصلح حاله والذي يراجع أموره في مثل هذه الأيام.

الذي لم يكن يصلي إلى الله تعالى فليتب إلى الله وليصلي، ومن كان يحمل فكرا يخالف كتاب الله وسنة رسوله أو ثقافة فعليه أن يدعها ويتبرأ من هذه الثقافة ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى، واحذروا عباد الله من لقاء الله بلا عمل صالح على منهج الإسلام على منهج محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

طباعة