|
22-01-2018 |
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما".
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون .. الدعاء عبادة عظيمة من أجل العبادات، وطاعة جليلة من أعظم الطاعات، وقربه من أنفس القربات، التي لا ينفك العبد عنها في ليله ونهاره، ونفسه وأهله، وشؤونه العامة والخاصة، فما من مسلم ألا وهو يسأل الله ويدعوه في كل وقت وحين، طالباً منه خيرا وعطاء، أو سائلاً إياه كف شر يخشاه، أو دفع ضر ألمّ به.
إنه حبل ممدود بين السماء والأرض، وصلة عظمى بين العبد وربه، ربح ظاهر بلا ثمن، ومغنم عظيم بلا تعب، وتجارة رابحة للمؤمنين أجمعين، يملكها الفقير والغني، والضعيف والقوي، والصغير والكبير على حد سواءٍ، ليس بين المرء وبين الدعاء إلا أن يلجأ إلى مولاه، ويرفع يديه إلى خالقه، ويطلب منه ما يريد، في أي لحظة من ليل أو نهار.
أجل عباد الله .. إن التضرع إلى الله تعالى، وإظهار الحاجة والافتقار إليه، وطلب الحوائج منه، من أعظم عُرى الإيمان، وأجلّ صفات عباد الرحمن، إنه قربة الأنبياء، وملجأ العارفين عن الله، وشعار الصالحين الذين قال الله عنهم في محكم التنزيل: "إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ".
ولأهمية الدعاء وفضله ومكانته عند الله، فقد ندب سبحانه عباده إليه، وتكفل لهم بفضله وكرمه بالإجابة، "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان"، ليس هذا فحسب، بل إن الله تعالى برحمته ولطفه بعباده يغضب على من ترك سؤاله ودعاءه، قال سبحانه: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"، وعند الترمذي وابن ماجة بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه".
وذلك عباد الله .. لأن ترك سؤال الله تكبر واستغناء عنه سبحانه، وهذا لا ينبغي في حق العبد الفقير إلى الله، والله عز وجل جواد كريم، خزائنه ملأى، لا ينقصه عطاء السائلين، ولا تضره إجابة الداعين، وقد ثبت عند مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"، وهو سبحانه وتعالى كما ثبت في السن حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين.
ينزل سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، نزولاً يليق بجلاله وعظمته، حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: "هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح".
وأعجز الناس عباد الله، كما جاء في الصحيح من عجز عن الدعاء وتركه، وعند البخاري في الأدب المفرد والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس شيء أكرم على الله من الدعاء".
عباد الله .. إن الدعاء سلاح يتقى به العدو وسوء القضاء، يجلب الحاجات والمصالح، ويدرأ عن العبد الشرور والمفاسد، وهو إيذان بسرعة الفرج، وزوال الهم، و تفريج الكرب، يشغل العبد بنفسه وعيبه وذنبه عن الناس، ويشعره بأنه دائماً في معية الحق، وحاجة الخالق، ومن كان كذلك فحري به أن ينال حاجته، ويحظى بمطلبه، وقد قال الفاروق رضي الله عنه: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء، فإن ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه"، ويقول سفيان بن عيينة رحمه الله: لا يمنعن أحداً الدعاء ما يعلم في نفسه من التقصير، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: "قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ".
عباد الله .. وكم من بلية ومحنة رفعها الله سبحانه وتعالى عن عباده بالدعاء الصادق، وكم من مصيبة كشفها الله سبحانه بالدعاء، وكم من ذنب ومعصية غفرها الله سبحانه وتعالى وسترها بالدعاء، وكم من رحمة ونعمة ظاهرة وباطنة استجلبت بسبب الدعاء، روى الحاكم والطبري بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة"، وعند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرد القدر إلا الدعاء".
ويقول القائل:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق علىّ
فما ينفك أن يتفرجا
ورب فتى سدت عليه وجوهه
أصاب لها في دعوة الله مخرجا
عباد الله .. وما أعظم أن يقف العبد بين يدي مولاه يدعو دعاء صادقاً في كل ما يريد، وما أعظم أن يكون المفزع للمرء في دقيق غاياته وحاجاته وجليلها إلى الله سبحانه وتعالى، لا يلتفت في شيء منها بقلبه إلى أحد سواه، فقد ثبت عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى".
وأعظم ما يكون صدق الدعاء حال الرخاء، فإنه صفة المتقين من عباد الله، ودليل التعلق بالله، ومعرفته والصلة به سبحانه، وأدعى أسباب الإجابة عند الشدائد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء".
ولقد كان عليه الصلاة والسلام كثير الدعاء لربه سبحانه ملازماً له في أحواله كلها، ومواقفه عليه الصلاة والسلام في الدعاء والتضرع الى الله، واللجوء اليه، مع أعدائه وفي غزواته وفي أسفاره وفي تهجده وصلاته وقنوته ثابتة محفوظة مشهورة، وكان عليه الصلاة والسلام يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سواها.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح يقول: اللهم اني اسألك العافية في الدنيا والاخرة، اللهم اني اسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي".
وعنه رضي الله عنه قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك" وهكذا كان دأب الصحابة والتابعين في إخلاص الدعاء لله، وصدق العمل والتوجه للخالق سبحانه. فقد روى البخاري أن عمر رضي الله عنه قال: " اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك" فقتل شهيدا تحقيقا لدعواه في بلد رسول الله.
وأخرج النووي بسنده عن الإمام الأوزاعي رحمه الله قال: خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد التابعي الجليل، فحمد الله تعالى وأثنى عليه: ثم قال: "يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا بلا، فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل، وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟ اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا، فرفع يديه ورفعوا أيديهم، فسقوا!"
أسأله سبحانه وتعالى أن يعمنا بعفوه ومغفرته، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
عباد الله .. اتقوا الله تعالى واشكروه وأطيعوه ولا تعصوه، والزموا عتبة باب الدعاء لله تعالى، والالتجاء إليه، والانطراح بين يديه تذللا وسؤالا فإنها أعظم منازل العبودية، ومن يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء فحري أن يستجاب له.
وليعلم المسلم أن من أهم آداب الدعاء وأسباب الإجابة أن يُقبل على الله تعالى بقلب خاضع حاضر، يتوسل إلى الله تعالى بفضله وسابق رحمته ، ويختم دعاءه بالصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يكثر من الدعاء حال السعة والرخاء، ويعزم المسألة ويجزم بدعائه، ويعظم الرغبة والرجاء لخالقه ويلح على الله في الدعاء ويجتهد فيه ويوقن بالإجابة من الله تعالى ولا يستعجلها.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له" اخرجه البخاري.
وعند الترمذي بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ".
وعند البخاري في الأدب المفرد والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا".
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجَل، يقول: قد دعوت ربي، فلم يستجب لي".
عباد الله .. وقد يكون تأخر الإجابة من الله تعالى لعبده ابتلاءً واختبارًا ليعلم صدقه وثباته وصبره وثقته بربه.
وليحذر المسلم من موانع إجابة الدعاء ومن أعظمها الإعراض عن الله سبحانه والوقوع في المعاصي والشرك وترك الطاعة وأكل الحرام وظلم العباد وأكل أموالهم والاعتداء عليهم بالباطل ، فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حين بعثه إلى اليمن بقوله: "وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" رواه الشيخان
فصار لزامًا أن يعلم المسلمون أن من أوجب الواجبات في زمن الكوارث والملمات رفع اليدين بالدعاء لله رب الأرض والسماء، الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف كربة المكروب إذا ناجاه، ويزيل الهم ويذهب الغم، ويحب العبد الأواه المنيب إليه، وكل من دعاه، فلعل ذلك الدعاء من أكف بيضاء نقية وقلوب صادقة وفية، وأعين باكية تقية، تخفف من تلك المآسي التي أقلقت المسلمين، وأقضت مضاجعهم، وقد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال: "لا يرد القضاء إلا الدعاء".
فعليكم عباد الله بالدعاء، فإنه من أسباب النصر على الأعداء وخاصة إذا كان ذلك من عباد الله الضعفاء، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّما يَنصر الله هذِهِ الأمَّة بضَعيفِها، بدَعوتهم وصلاتهم، وإخلاصهم".
عباد الله ..يا من تكالبت عليه الهموم والغموم وضاقت عليه الأرض بما رحبت: أين أنت من سؤال الله ورجائه؟
و يا من أرهقته الأمراض وأغرقته الديون ويامن أثقلته المعاصي والذنوب
أين أنت من الغني القيوم؟
أين أنت من غافر الذنب وقابل التوب؟
و يا من غشيه الخوف والقلق تطلع إلى السماء فعند الله الفرج،
هذا هو الدعاء، فأين السائلون؟
وهذا هو الطريق فأين السالكون؟
عباد الله ..اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده.
اسأله سبحانه أن يعمنا بعفوه ومغفرته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.