|
01-05-2017 |
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله.. قال سبحانه: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"، موعظة بليغة ووقفة للمحاسبة عظيمة، ونحن نقف عند هذه الآية في بيان حقيقة الدنيا.
أيها المسلمون ان هذه الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها فيها العناء، فكم من عامر عما قليل يخرب وكم من مقيم مغتبط عما قليل يرحل.
لا تبقى على حالة ولا تخلو من استحالة، تصلح جانبا بفساد جانب، وتسر صاحبا بمساءة صاحب، فالركون إليها خطر والثقة بها غرر، كثيرة التغيير، سريعة التنكير، شديدة المكر، دائمة الغدر، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرّت يوما ساءت أشهرا وأعواما، وإن متعت قليلا أبكت كثيرا، وما حصلت للعبد فيها سرورا إلا خبأت له شرورا، ولا ملأت بيتا فرحان إلى ملأته ترحاً وحزنا، "يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ".
وعند ابن ماجة وأحمد والترمذي عن المستورد بن شداد، قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟" قالوا: من هوانها ألقوها يا رسول الله. قال: فوالذي نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله عز وجل من هذه على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء".
وقال موسى عليه السلام يوصي أصحابه: " الدنيا متاع فاعبروها ولا تعمروها، ولا تنازعوا أهل الدنيا في دنياهم فينازعوكم في دينكم، فلا دنياهم أصبتم، ولا دينكم أبقيتم".
عباد الله .. تلكم الدنيا التي شغل بها كثير من الناس، وغرهم سرابها وبريقها وزينتها، فراحوا يتهافتون على جمعها، يتنافسون في اكتنازها، ورضوا منها الإقامة والتمتع في شهواتها وملاذها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل والعمل لدار القرار، ونسوا أنها في حقيقتها ما هي إلا معبرا إلى الدار الآخرة، وميدانا يتنافس فيها المتنافسون، ويتنافس فيها المتسابقون للفوز بالدار الآخرة.
ومن يرى الناس وهم يتصارعون على هذه الدنيا، ويتكالبون عليها يدرك لماذا يفقد البعض دينه، ويضيع الكثير أهله وأبناءه، وتنتشر الأحقاد، وتزرع الظعائن، وتعم البغضاء، وهذا مصداق ما قاله النبي صلى ا لله عليه وسلم "مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ".
عجباً لغفلتنا في هذه الحياة مع كثرة العبر والمواعظ، نلهو ونلعب وننسى ونتناسى، كم ودعنا من أب وأم، وكم نعينا من ولد وبنت، وكم دفنا من أخ وأخت، ولكن أين المعتبرون؟ فأكثر الناس إلا من عصم الله في هذه الحياة الدنيا مهموم مغموم في أمور الدنيا.
وإن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لاه يتغافل، لا يحسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، دخل أبو الدرداء رضي الله عنه الشام فقال: " يا أهل الشام اسمعوا قول أخٍ لكم ناصحٍ. فاجتمعوا عليه فقال: مالي أراكم تبنون ما لا تسكنون. وتجمعون ما لا تأكلون. وتقولون ما لا تدركون. إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيداً. أملوا بعيداً. وجمعوا كثيراً. فأصبح أملهم غروراً. وجمعهم بوراً. ومساكنهم قبوراً".
وكم رأينا في هذه الحياة منبنى وسكن غيره، وجمع وأكل وارثه وتعب واستراح من بعده، ولقد كان السلف الصالح ولنافيهم أعظم أسوة على غير هذه الحال، مع شدة إيمانهم، وتبشيرهم بالجنة، يقول الحسن البصري: دركتُ أقواماً كانوا لا يفرحون بشيءٍ من الدنيا أتوه، ولا يأسَون على شيءٍ منها فاتهم" ولقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه، قدوتهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي ارتسمت على لسانه نظرته إلى الدنيا بقوله في الحديث الصحيح " مالي وللدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال ـ أي نام ـ في ظل شجرة ، في يوم صائف ، ثم راح وتركها ". رواه الترمذي وأحمد.
لماذا حذر النبي صلى ا لله عليه وسلم من هذه الأمة من التنافس والتناحر والتخاصم حبا في الدنيا ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ , وَالرُّومِ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ ؟ " , قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : نَقُولُ : كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ تَتَنَافَسُونَ , ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ , ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ , ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ , ثُمَّ تَنْطَلِقُونَ فِي مَسَاكِينِ الْمُهَاجِرِينَ , فَتَجْعَلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى رِقَابِ بَعْضٍ ".
وأرشد صحابته بقوله لعبد الله بن عمر رضي ا لله عنهما "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" فكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
ولسان حالهم يقول:
إن للهِ عِبَاداً فُطَنَا
طلقوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعَلُوهَا لُجَّة وَاتَّخَذوا
صالحَ الأعمالِ فيها سفنا
فتزودوا من الأعمال الصالحة، ولا تغتروا بهذه الدنيا الفانية، واعلموا أنكم راحلون عما قريب ومفارقون لهذه الدنيا، فالكي من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تستمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد،،
اعلموا رحمكم الله أنه مع هذه الصفات السيئة الدنية إلا أنها فرصة ثمينة ومزرعة للآخرة نفيسة، فهي موسم الطاعات وزمن للعبادات وميدانا للتنافس في الصالحات، فيها يتزود المسلم للآخرة، ويعمل للباقية، وما فاز من فاز يوم القيامة إلا بما أسلف في الأيام الخالية وقدم في الدنيا الفانية.
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله الناس فقال: " أيها الناس لكل سفر زاد فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ا لعذاب فترغبوا وترهبوا ولا يطولن عليكم ا لأمد فتقسوا قلوبكم وتنقادوا لعدوكم فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يمسي بعده صباحه، ولا يصبح بعده مسائه".
عباد الله .. لقد رأينا من يملك هذه الدنيا الفانية وقد رحل منها بكفن، ومن لا يملك منها شيئا قد رحل بكفن مثله، فالجميع لا شك متساوون في القبور، المعظم والمحتقر، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، ولكن بواطن القبور مختلفة إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، فمن عمل في هذه الحياة الدنيا صالحا واستعد للقاء الله ، واستثمر أوقاتها فيما يعود عليه بالنفع فرح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وإن كثيرا من الناس مع شديد الأسف لا يزيدهم تعاقب الأيام وتتابع الأعوام وإمهال الله لهم إلا عنادا وكفرا وبعدا عن الله تعالى، ناسين أن الله يمهل ولا يهمل، غرهم طول الإمهال وخدعهم التسويف والأمل، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
فاتقوا الله عباد الله، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعملوا صالحا ما دمتم في فسحة الأمل تنامون في نعمتين عظيمتين مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ.
فاتقوا الله عباد الله، ثم صلوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل "إنّ اللهَ وملائكتَهُ يُصَـلُّونَ على النبي يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسلِّمُوا تسليما".
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
|