جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 20 شوال 1438هـ الموافق 14 يوليو 2017م بعنوان "الإعراض عن الجاهلين"

  16-07-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، هدى بفضله إلى صراط مستقيم، ووفق من شاء من عباده إلى خلق كريم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، أكمل الناس خُلقا وأشرفهم حسبا ونسبا، صلى الله عليه وسلم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.

فيا أيها المسلمون .. اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى وتزودوا من العمل ما يحب ربكم ويرضى.

أيها المسلمون .. خلق كريم ومسلك حميد، الناس في هذه الأيام والأزمان في أمس الحاجة إليه، لأنه سلاح فعّال ودواء ناجع ناجح وكابح، إنه الإعراض عن الجاهلين – أمر الله تعالى به رسوله ومصطفاه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين"، وأثنى على عباده الذين يتحلون به فقال: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين"، وجعل الله تعالى هذا الخُلق من علامات عباده المؤمنين فقال: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"، فتحلّى بهذا الخلق النبيل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فأعرض عن الجاهلين في أول الدعوة، وأثناءها، أعرض عن المستهزئين من المشركين الذين كانوا يتعرضون لدعوته حتى أذلهم الله تعالى وأظهر دينه ورسوله والمؤمنين، وصفح عن أعرابي شدّه أو جبذه جبذة قوية أثرت في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم.

وتحلى بعده صحابته الكرام على رأسهم الشيخان أبوبكر وعمر، فلقد أعرض أبو بكر عن ابن خالته مسطح حين خاض مع الخائضين في حادثة الإفك المفتراة على عائشة رضي الله عنها وصفح عنه وأعاد إليه النفقة بعد أن كان منعها عنه.

ودخل عيينة الفزاري على عمر رضي الله عنه وتطاول عليه فقال: هي يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزال ولا تحكم بيننا بالعدل، فهمّ عمر به فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وهذا من الجاهلين، فهدأ رضي الله عنه وأعرض عنه.

أيها المسلمون .. والجاهل هو الذي يقحم نفسه فيما لا علم له به، أن يتكلف من الأحوال والتصرفات ما ليست له، ليظهر نفسه ويري الناس حاله، ويستعرض أوراقه قائلاً لهم: ها أنا ذا، وهو ممن قال الله فيهم "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير"، وهو لا يعلم الذي يدخل نفسه في كل أمر، ويفهم كل شيء.

وليس صحيحاً أن الجاهل الذي لم يتعلم القراءة والكتابة، بدليل أن من حمل الشهادات العلمية من لا يسُرك تصرفه وسلوكه، ولا يحسن الكلام عن الرجال ولا يعرف الآداب ولا يدري ما يقدم وما يؤخر إذا جلس مجلس الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

فالجاهل هنا الذي وقع في الخلق الذميم بما كسبت يداه، فهو معيب ومطعون فيه لسوء خلقه وفساد صنيعه.

وقد يكون متعلماً وغير متعلم بدليل أن هذه العينة موجودة فيمن تعلم وتعلم وقرأ وكتب ولكن لاعوجاج منهجه وانحراف مسلكه، ومن الناس من لم يتعلم ولكن يشار إليه من بعيد برجاحة عقله وشيمته وكرم أخلاقه، إذا تكلم في المناصحة أبدع وإذا أشار بالمشورة أصاب وإذا أبدى رأياً كان موفقاً.

وإن الإعراض عن الجاهلين يا عباد الله يكون بعدم مجاراتهم فيما يقولونه ويفعلونه، بترك الرد عليهم واهمال ما يثيرونه من زوابع، من أجل السلامة من الاثم عند الله تعالى والنقص عند الناس.

ومن الاتصاف بالخلق الذميم عند الناس بسبب مجاراة الجاهل، فكم فاز الفائزون بسبب إعراضهم عن الجاهلين، وكم ربح أهل الاستقامة عند الله إن شاء الله وعند الناس بسبب إهمال زوابع الجاهلين، وكم خسأ من الجاهلين والطاعنين وأهل النفاق والذين في قلوبهم مرض، وكم خسر عقلاء وشرفاء وتبادلوا التهم ولاحقوهم وقذف بعضهم بعضاً.

إن الدنيا مليئة جهلاً ونفاقاً وفتناً، فهناك الغلظاء والقساة والحاقدون والحاسدون وأهل الخصومات وملاحقو المشاكل ومتابعو المصائب والكذب والخيانة وظهور ذي الوجهين.

فالدنيا مليئة بهذا وغيره، وفي المقابل - فيها الخير والطاعة والمحسنون والصالحون ومحبو الخير والعافون وكاظمو الغيظ والمعرضون عن الجاهلين والآمرون بالمعروف والذين يريدون أن يشقوا طريقهم إلى الله ورسوله والرفعة الكريمة والمنازل الرفيعة الشريفة.

وحتى تتوازن الأمور لابد عن عافين عن المخطئين ومسامحين عن المتجاوزين ومعرضين عن الجاهلين وكاظمين للغيظ وعافين عن الناس، وإلا فالطريق وعر وغير ممهد في هذه الدنيا للمرور إلى الآخرة.

وتظهر هنا الحكمة في أمر الله تعالى بالإعراض عن الجاهلين حتى لا ينشغل العبد المؤمن بهذه العراقيل عن متطلبات الآخرة.

ثم ليعلم المعرض عن الجاهلين أن الإعراض يحتاج إلى صبر وتحمل، ولكن نتائجه لا تقدر إلا بالمقادير الرفيعة، وذلك عند الله تعالى إن شاء الله أولاً، ثم إن الناس لوّامة للعاقل أكثر من لومها للجاهل، بل قد لا تلتفت الناس إليه أبداً وتهمله غير آبهة به، ولكن لا يمكن أبداً أن تسكت عن العاقل إذا أنزل نفسه وصفها في مصاف أهل الجهل والاعوجاج، فإن الردور ستأتي من كل عاقل لهذا العاقل، واللوم سيكون أحياناً شديداً وفيه غلظة، فلينتبه العاقل وليحذر، لأن مقامه يحتاج إلى صيانة ورعاية، وويل للعاقل إذا أنزل نفسه منازل الهوان وتركها ترعى مع الهمل.

إن الرزية كل الرزية أن يقابل الجهل بالجهل والأذية بالأذية لأن في ذلك فساد الدنيا، يقول الله تعالى "ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون". وأن الجاهل لفساد طبعه واعوجاج حاله لا يضره ما يقال عنه ولا ما يوصف به، فلقد تطبع بهذا الخلق الفاسد وهو أذية عباد الله بأي نوع من الأذى، حتى صار لا يشعر بالذنب ولا بمؤاخذة الضمير، ولا يهمه قول القائلين فيه، فليتأمل المؤمن حاله ومآله، فإن الأخلاق الكريمة زينة المؤمن بل ينال بها مرضات ربه وثناء العباد عليه.

وهذا الخلق الذي حذرنا منه جاء في آية قال عنها العلماء أنها جماع الأخلاق وهي "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" نصح به محمد رسول الله وهي للناس من بعده.

قال قتادة: هذه أخلاق أمر الله تعالى بها نبيه عليه الصلاة والسلام ودلّه عليها، وقال جعفر الصادق رحمه الله: أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.

وإنها لآية جامعة لأكرم الأخلاق، وأُناس هذه الأزمان هم أحوج إليها إلى تعلمها وتفسيرها والوقوف على أسرارها وتطبيقها وذلك لكثرة الجاهلين والمعتدين والمتعمدين والمخربين المتخصصين.

وليكن هدف المؤمن وغايته مرضات ربه بالخلق الكريم، فإن الأخلاق الكريمة يا عباد الله لا تشترى بالأثمان وليس لها ثمن ولا تعرض في الأسواق، ولكنها في الدين الحنيف والعمل به والاستقامة عليه وليتعلم المؤمن أنه بحسن خلقه ينال الدرجات الكريمة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرافقة رسول الله في الجنة يقول: "إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون" وهم يكثرون من الكلام ويتعمدون الإتيان بالألفاظ الغريبة ترفعاً وإظهاراً للفضيلة على غيرهم.

ثم صاحب الخلق الكريم هو أكمل المؤمنين إيماناً، تكفل له رسول الله ببيت في الجنة وحولها، لأنه يترك الجدال والمراء مع أن الحق معه.

ولا ينسى المعرض عن الجاهل مبتلى فيحتاج إلى حلم وأناة، وإن في حسن خلق المعرض عنه دعوة لمراجعة نفسه، والإفاقة من النومة ورجوع الفكرة كقوله لأشجع بن عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" رواه مسلم.

ويقول: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" متفق عليه، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف، وإن الرفق في الأمور أو معالجتها يزينها ويتممها وإذا نزع منها ازدادت غلظة وظلمة.

وبلية المرء عباد الله أن يبتلى بالغلظة ويعمى عن الرفق يقول صلى الله عليه وسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" رواه مسلم.

فتحلوا عباد الله بالأخلاق الكريمة، واحذروا الأخلاق الذميمة، وليكن دين الله مؤثراً فيكم يحكمكم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ما يحدث في دنيا الناس من خلافات ومشاكل راجع لعدم تحاكمهم إلى دين الله أو أن دين الله غير مؤثر في الناس بسبب إعراضهم، ولذلك تكون المشاكل والمصائب والفتن، وإلا ففي دين الله علاج ودواء لكل بلاء ووباء، علمه من علمه وجهله من جهله.

فعلى أهل الإصلاح أن يصلحوا، وعلى أهل الحل والعقد أن يقولوا كلمة لله تعالى انتصاراً لدينه وشريعته، وليحذروا من دعاة الفساد والخلاف، ولتهون النفوس الأمور ولتسعى للعمل للجميع، وليتقي الله تعالى عباد الله ولتنظر كل نفس إلى ما هي مستقبلة غداً من موت وقبر وحساب ونشور، "يآيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله ان الله خبير بما تعملون".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وفي هدي رسول الأمين، وتاب علي وعليكم وعلى المسلمين، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أمة الإسلام .. اتقوا الله تعالى وتفكروا في هذا الخلق الكريم الذي نصحكم به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم "وأعرض عن الجاهلين"، فإن الجاهل يا عباد الله إذا أُعرض عنه فإنه يموت ويخسأ ويرجع والعياذ بالله، أما الجاهل فإنه يحيا وينتعش ويجد الفرصة إذا جاءته الردود و رُدّ عليه فإنه ينتعش ويتمادى في جهله، فإن الجاهل يا عباد الله لا يجد الأنس ولا يجد النفس إلا إذا جاءته الردود.

فلذلك يا عباد الله .. يجب على المسلمين أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يعملوا على البناء والجمع وأن يعرضوا عن الجاهلين، فإن الخليج يمر في أزمة عسيرة وتحتاج إلى عقلاء، تحتاج إلى عباد الله المؤمنين الذين يدعون الله تعالى، والذين يلجؤون إلى الله سبحانه وتعالى، والذين يحكمون عقولهم وإيمانهم وإسلامهم، وينطلقون من منطلق الإسلام.

فلنتق الله يا عباد الله .. ووالله لقد أثبت أهلنا وشبابنا وأبناؤنا في هذا البلد المبارك أن الله قد من عليهم بخلق كريم، فحفظوا أنفسهم وحفظوا إن شاء الله إيمانهم وإسلامهم، فقد شهد لهم البعيد بأنهم على خلق كريم، ثبتنا الله وإياهم على الصراط المستقيم وحفظنا وإياهم وحفظ لنا دينا وإسلامنا وإيماننا، وهكذا يكون الناس عباد الله في الفتن هكذا يكون المؤمنون في حال الفتنة، أن يمسكوا أنفسهم عن الانزلاق وحتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وأن يعرضوا عن السفهاء، ويعرضوا عمّن لا دين له وعمّن تخلى عن دينه والعياذ بالله، أو عمّن أهمل دينه على الأقل في هذه الأزمة، نسأل الله العافية.

إن أعظم سلاح يتسلح به المؤمن وخاصة في الأزمات والفتن، هو سلاح الإيمان، هو سلاح الإسلام، هو العمل بهذا الدين، يحفظ الله العبد بدينه، يحفظ الله تعالى العبد بإسلامه، "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وهذه شهادة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده، "ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" أي أن علامة حسن الإيمان أن يترك الإنسان ما لا يعنيه.

ولكنها فتنة يا عباد الله، فتنة أرادها من أرادها وحسبنا الله ونعم الوكيل على من أرادها، واطمئنوا فإن الله تعالى ناصر دينه، وناصر كتابه وعباده الصالحين، وناصر سبحانه وتعالى المظلوم من عباده، فكونوا عباد الله مع الله في كل كبيرة وصغيرة وكونوا مع الله تعالى في تصرفاتكم في أقوالكم وفي أفعالكم ينصركم الله سبحانه وتعالى "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

 

http://www.jameaalemam.com