جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
‏ ‏خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 12 ذو القعدة 1438هـ الموافق 4 أغسطس 2017م بعنوان "الاخلاق الحسنة وأثرها على المسلم"

  13-08-2017

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

 

أيها المسلمون .. كم يتمنى الإنسان أن يفخر بأمته المسلمة، وأن يراها تعود الى منصة العزة والريادة، وتتربع على عرش النصر والتمكين، وتأوي إلى رابطة الولاء في الدين، والأخوة في العقيدة، والتحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، ونبذ الخلاف والفرقة.

أمة الإسلام التي كانت أعظم أمة في الأرض، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تنصر المظلوم وتغيث الملهوف وتحمي الذمار وتذود عن الحمى، لا كلمة فوق كلمتها، ولا راية تعلو رايتها، رائدة في العلوم والمعارف، والأخلاق ورائدة في الأخلاق والآداب، ورائدة في السياسة والاقتصاد.

ثم عادت في أعقاب الزمن على كثرة عدتها وتنوع خيراتها وترامي أطرافها غثاء كغثاء السيل؛ أمة مغلوبة لا غالبة، ومحكومة لا حاكمة، وخائفة لا مرهوبة، مستباحة الذمار، مغتصبة الحمى، مهضومة الحقوق، أحزاباً وجماعات، وطوائف وشعارات، فرقتها الدنيا، ومزقتها المصالح وأفسدها العدو الخارجي بكيده ومكره، والعدو الداخلي بنفاقه وحقده وحسده. 

ورحم الله الإمام الشافعي حين قال:

نعيب زماننا والعيب فينا .... وما لزماننا عيب سوانا 

ونهجر ذا الزمان بغير ذنب .... ولو نطق الزمان لنا هجانا 

وليس الذئب يأكل لحـم ذئب .... ويأكل بعضنا بعضا عيانا 

ومن هنا إخوة الاسلام، يدرك المسلم الفطن خطورة الإفساد من داخل المسلمين، وأنه أشد من الإفساد الخارجي، كما يدرك الحكمة الإلهية من كثرة التحذير من المنافقين وخطرهم وكيدهم في القرآن الكريم، الذين حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثالهم في آخر الزمان، يقول سبحانه: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون".

لذلك أيها المسلمون .. جاءت الشريعة الإسلامية بشموليتها، داعية إلى نبذ الفساد في الأرض، حاثة على الإصلاح والصلاح، وجعلت من أهم مقوماته وأسسه الأخلاق الحسنة. 

فمن شمولية هذا الدين وعظمته، أنه دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، والصفات النبيلة، جاءت تعاليمه وقيمه بالأمر بالمحافظة على الأخلاق الحسنة في كل أحوال المسلمين؛ في صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أفراداً ومجتمعات، ودولا وجماعات، ويكفي لبيان ذلك أن يحصر النبي صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته، وهدف رسالته في إصلاح الأخلاق وتهذيبها يقول عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"

ويقول القائل: وإنما الأخلاق ما بقيت ..... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

أيها المسلمون .. حسن الخلق، وانتشار الأخلاق الفاضلة بين الناس أساس بناء الأفراد والجماعات، ومعيار صلاح الأمم والمجتمعات، إنه علامة على كمال الإيمان وحسن الإسلام، وسبب عظيم لرفعة الدرجات، وعلو الهمم، وصلاح الأحوال، وتحصيل السعادة في الدارين، ونيل محبة الله تعالى ومحبة خلقه للعبد، ومتى تحلّى الناس بالأخلاق الفاضلة، وتأدبوا بالآداب السامية والصفات النبيلة رفرفت على المجتمعات السعادة، وعاش الناس حياة الترابط والبناء، والمحبة والوفاء، والتعاون والإخاء، فانشرحت الصدور، وتيسرت الأمور، وتوثقت الصلات، وتلاشت العداوات.

جاء عند أبي داود وأحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، وما وضع في الميزان للعبد الصالح يوم القيامة أثقل من حسن الخلق؛ فهو أكثر ما يدخل الناس الجنة، ويبعدهم عن النار؛ قال عليه الصلاة والسلام: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء".

وعند الترمذي بسندٍ صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله وحسن الخلق".

وروى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".

ولقد ضرب المصطفى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الأخلاق الفاضلة؛ تمسكاً وتوجيهاً قبل بعثته؛ كان ذا خلق نبيل، وأدب رفيع حتى ما عُرف بمكة أروع ولا أحسن خلقاً منه عليه الصلاة والسلام؛ فلقبه قومه بالصادق الأمين؛ لما رأوا من جلالة خلقه، وسمو أدبه، وكريم صفاته، ونبيل عاداته، عليه الصلاة والسلام. وصدق الله سبحانه وتعالى حين أثنى عليه في كتابه العزيز بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم".

لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، ولا لعانًا ولا سبابًا، وكان أبغض الخلق إليه الكذب، وكان من أحسن الناس وجهًا، وأطيبهم خلقًا، وما نيل من حقه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله، فينتقم لله سبحانه. 

أيها المؤمنون.. تمسكوا بالأخلاق الفاضلة، والصفات الكريمة، لا سيما مع أهلكم وذويكم، وأقاربكم وأرحامكم، فالأخلاق الحسنة سجية الأنبياء والمرسلين، ووصف المؤمنين المتقين، تزيد الشريف شرفًا، وترفع للوضيع ذكرا حتى تبلغه مقامات الأنبياء ودرجات الأولياء، وما وُصل للمنازل العالية إلا بالتواضع والتخلق بالأخلاق الفاضلة، ولا أقرب لقلوب الناس وألصق بهم من صاحب الأخلاق الحسنة، ولا أوحش لقلوبهم وأبعد من صاحب الخلق السيء، قال صلى الله عليه وسلم: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طهر" .

عباد الله .. هذا هو منهج الإسلام الذي ارتضاه سبحانه وتعالى منهجا متكاملا، ودينا قويما، وصراطا مستقيما، وهذا هو منهج السلف الذين فهموا الإسلام فطبقوه في واقع حياتهم قولاً وعملاً، ومنهجاً وسلوكاً، فهموا أن كل عمل في هذه الحياة ولو كان ظاهره الدنيا فالإنسان مأجور عليه، طالما ابتغى الأجر عليه من الله، وقصد من ورائه الاستعانة به على طاعه الله.

ألا فاتقوا الله أيها الناس، واستمسكوا بالأخلاق الفاضلة، وتعوذوا بالله من سيء الأخلاق، فقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام عند النسائي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام وكان يكثر من هذا الدعاء: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة ‏الثانية: 

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

‏أيها المسلمون .. اعلموا أنه من أهم ما يفضي إلى سوء  الأخلاق، والتنافر بين الناس، والوقوع في براثن العداوة والبغضاء، هو التجريح والتعريض بالمسلمين، ‏فهو من أعظم مداخل اللسان على المسلم ضرراً، وأشدها إثماً وخطرا، مدخل التجريح والتعريض بالمسلمين، سباً وشتماً، ولعناً وقذفاً، بهتاناً وافتراءً، تجريحاً وتفسيقاً، وتبديعاً وتكفيراً، ‏على صورة وساوس غامضة، وانفعالات متوترةٍ، وحسد قاطع، وتوظيف لسوء الظن، والظن أكذب الحديث، وبناء على الزعم والقيل والقال، وبئس مطية الرجل قالوا وزعموا.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنهُ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلسُ؟" قالوا": المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار".

‏ولو نظر الإنسان بعين البصيرة والعدل إلى نفسه، ‏لوجد فيها من العيوب ما يحجزه عن عيوب الناس، ويشغله عن تتبع زلاتهم، والحكم على نياتهم، ومقاصدهم، روى الترمذي بإسناد حسن عن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله أنه قال: "قلت يا رسول الله ما النجاة؟، قال صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ، لِسَانَكَ وَلْيَسعْـكَ بَيتـُك، وَابْكِ علَى خَطِيْئَتِكَ"، ‏وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده".

‏قال سبحانه وتعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا".

‏معاشر المسلمين .. إن كان لمحاسن الأخلاق مقامات ومدارج، فإن لمساوئ الأخلاق مهالك ومدارك، والكذب أحد هذه المثالب، ‏فهو من أقبح الذنوب، وأفحش العيوب، بريد الكفر، وعلامة النفاق، ودليل الضلال، والقائد إلى الفجور، ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".

‏قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب، وشر الندامة ندامة يوم القيامة".

‏الكذب - عباد الله - عمل مرذول، وصفة ذميمة، فهو من خصال النفاق، وهو من الأسباب العظيمة في رد القول، ونزع الثقة من الكاذب، فالكذاب مهين النفس، بعيد عن عزتها المحمودة، يقلب الحقائق، فيدني البعيد، ويبعد القريب، ويقبّح الحسن، ويحسّن القبيح.

‏قال مالك بن دينار رحمه الله: "الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما الآخر"، ‏لا يكذب المرء إلا من مهانته، أو فعله السوء أو من قلة الأدب، ‏بل أن الكذب من الأمور المنافية للإيمان، إذ هو مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور والظلم،  قال صلى الله عليه وسلم: "يُطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب"، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم، فقيل له: أيكون المؤمن كذابا؟  فقال: لا".

‏عباد الله..  ومن أخطر مظاهر الكذب، الكذب لإفساد ذات البين، فإن من الناس من لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار حتى يفسد ذات البين، ويفرق شمل المتحابين، فتراه يختلق الأقاويل، وينسج الاباطيل ليفسد بين الناس، ويحملهم على القطيعة والتباغض، ولَكَم تقطعت روابط، ‏وتفصمت علاقات، وتخاصم أرحام بسبب ذلك، وهذا هو البلية العظمى، والرزية الكبرى التي لا يقوم بها إلا دنيء النفس حقير الشأن.

‏وإن تعجب فعجب ممن يسلط لسانه تفريقاً بين المسلمين في وسائل الإعلام المختلفة، وهو يعلم كذبه ويصر على ذلك، كما يعلم يقيناً أن لو فاته مهنة كراء لسانه لما نفع في عير ولا نفير.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه الترمذي.

ويقول القائل:

 

إذا ما المرء أخطأه ثلاث .... فبعه ولو بكف من رماد 

سلامة صدره والصدق منه .... وكتمان السرائر في الفؤاد 

 

كتب عمر بن عبدالعزيز- رحمه الله- إلى بعض عماله يقول: "إياك أن تستعين بكذوب؛ فإنك إن تطع الكذوب تهلك".

وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

 

http://www.jameaalemam.com