جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 24 ذو الحجة 1438هـ الموافق 15 سبتمبر 2017م بعنوان "الصبر على بلاءات الزمان"

  20-09-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 

الحمد لله الذي وعد الصابرين توفية أجورهم بغير حساب، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ..

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، اصبروا رحمكم الله على دينكم وعقيدتكم، اصبروا وعضوا على الإسلام والإيمان ومتابعة رسول الله، اصبروا على طاعة الله ورسوله وعن معصية الله ورسوله وعلى قدر الله تعالى وقضائه، والله لا يريد بعبده إلا خيراً "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون".

عباد الله .. الإنسان بطبيعته يحب التسهيل والتيسير والرفق والهين ويكره الصعب والعسر والشدة "إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون"، وما علم الإنسان أن الشدائد والصعاب والمحن تحمل في طياتها البشرى لمن صبر عليها واحتسب عند الله تعالى صبره ومثابرته، والصبر عباد الله هو دثار هذا الدين ودرعه المتين، شاء الله سبحانه أن يبتلي أتباع هذا الإسلام ويصبروا ويرفع درجاتهم ومنازلهم.

إن المتتبع للشريعة الإسلامية يلمس من قرب عناية الشريعة بالصبر والحث عليه وملازمته والتدرع به ومواجهة الدنيا به والاستعانة بالله تعالى على نوازلها ومصائبها، والصبر هو حبس النفس وربطها والأخذ بعنانها حتى لا تجزع ولا تغضب ولا تستعجل الأمور فتفسد أكثر مما تصلح وتضيع أكثر مما تكسب وتهدم أكثر مما تبني، وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله ورسوله، وصبر عن معصيته سبحانه ورسوله، وصبر على أقداره المؤلمة، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين، ذكره الله في القرآن الكريم في تسعين موضعاً لأهميته ومكانته في الإسلام، وقدمه مرتين على الصلاة في سورة البقرة فقال "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، "يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين"، واعتبره رسول الله أوسع العطاء وخير العطية فقال "وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" رواه البخاري ومسلم.

وعد الله عز وجل أهله وفاء أجرهم بغير حساب "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب"، "ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، وأثنى عليهم "والصابرين في البأساء" وهم أهل العزيمة والثبات "ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور".

بالصبر يا عباد الله تنال الإمامة والمقام الرفيع والدرجات "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"، وبه تنال الأماني وتبلغ الغايات "أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً" وبه ينال العلم النافع والعقيدة الصحيحة ويعز الله تعالى وينصر الدعوة الصادقة والسبيل إلى الصراط المستقيم.

أيها المسلمون .. لقد بلغ الصالحون والهداة والراشدون منازلهم وغاياتهم بالصبر كما أمرهم الله تعالى، وما صبر عبد مخلص لله عز وجل إلا بلغه، وما ابتلى أحد فصبر إلا كشف الله عنه بلاءه، وما قصد أحد وجه الله تعالى في عمل ما إلا أوصله ربه تبارك وتعالى وأعطاه مناه، صبر يعقوب عليه السلام على فراق ولديه وتغييب إخوانهم لهم فلم ييأس وظل صابراً محتسباً متوكلاً على ربه غير قانط من رحمته "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"، فكافأه ربه بعودتهما سالمين، وجمع شمله مع أبنائه وجاءوه معتذرين "يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين".

وصبر يوسف عليه السلام على كيد إخوانه وتحمل كيدهم وتغرب في الدنيا بسبب مكرهم حتى جعله الله تعالى سيداً على خزائن الأرض وجاءه إخوانه يتزودون الزاد فعرفهم وهم له منكرون "يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يحب المتصدقين" ثم عرفوه واعتذروا إليه مما فعلوه "تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين".

وصبر أيوب عليه السلام على البلاء صبراً صار مثلاً للصابرين عبر القرون وإلى يوم الدين وأشاد الله تعالى بصبره ومنّ عليه بالعافية وكشف عنه ضره "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب" حتى قال سبحانه "إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب".

وصبر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أذية مشركي العرب فكم تحمل من أذاهم وإهانتهم فقالوا عنه ساحر وكاهن ومجنون وكذاب فقال له ربه "فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك" وقال له "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً" وضعوا الشوك على باب داره ورموا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد يصلي تحت الكعبة وطردوا أصحابه وعذبوهم حتى مات بعضهم تحت العذاب وفعلوا الأفاعيل فصبر على البلاء كله حتى أظهره الله عليهم فنصره والدين، وجاءوا أذلة صاغرين يوم فتح مكة فعفى عنهم وأطلق سراحهم ودعا الله تعالى لهم "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

أيها المسلمون .. إن أكرم الصبر وأرفعه الصبر على دين الله القويم، الصبر على عقيدته الصحيحة التي جاء بها رسول الله من عند ربه، وخاصة في هذا الزمان الذي باع فيه البعض دينهم وتنازلوا عن عقيدتهم وقالوا كلمة الكفر، يقول لقمان لابنه عليهما السلام "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" وقال تعالى لرسوله "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا".

إن الصبر على دين الله القويم شرف يشرف الله تعالى به من يشاء من عباده المخلصين، وإن التهاون في العقيدة وتبديل المنهج والقول بما لا يرضاه الله تعالى في الفتوى أو الدعوة وهجر منهج القرآن والسنّة ومتابعة من شرقت بهم الأهواء وغربت إن هذا علامة على عدم استقرار العقيدة في النفوس والدين الحق.

إن الصبر على دين الله القويم صخرة يتعثر بها المجرمون الذين يريدون كيداً للمسلمين، يتعثرون على صخرة الصبر فتتبعثر أوراقهم وتتفرق جهودهم وتذهب عقولهم ويرجعون خائبين.

إن الصبر على الإسلام ورفض استبدال معتقداته وعباداته ومرتكزاته يحطم سفن البغاة والمجرمين الذين يحسبون أن الرسّ على شواطئ العقيدة الإسلامية سهل يسير .

لقد تحطمت سفن الأعداء بالأمس والأمس القريب وسوف تتحطم وتبقى محطمة إلى يوم يبعثون فالدين الإسلامي بعقيدته السمحة وتشريعاته وعباداته كل ذلك محفوظ بإذن الله تعالى ورعايته ولن ينال منه أحد "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فأروا الله من أنفسكم خيراً معشر المسلمين، بالصبر على دينه القيم على  منهج رسول الله، ولا تغرنكم تقلبات الكافرين والمتحولين والزائغين فإن للجنة أهلاً وللنار أهلاً، فكونوا من أهل الجنة الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون.

أيها المسلمون .. إن حال الأمة ووضع المسلمين من هجوم أعداء الله عليهم، وخيانة الخائنين وكثرة المنهزمين إن هذا الحال يا معشر المسلمين لا يواجه إلا بالصبر والثبات ومواجهة التحولات بالسنن المشروعات والعقائد الإسلامية الثابتات الراسخات.

ألم تروا عباد الله إلى من بدل النعم وخالف السنن كيف آل حالهم وانتهى أمرهم "دمر الله عليهم" وبدل نعمته عليهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي ضيق وعسر وجوع وخوف يلهثون، وإن شر ما يهدم الصبر ويحبط العزائم ويضعف القوى هو القنوط من رحمة الله واليأس من الفرج والنظر إلى الأبواب المغلقة لن تفتح ولن تلين الصعاب، إن المصابرة درجة فوق الصبر يبلغها العبيد الصابرون الذين اعتنقوا الصبر وارتضوه لهم منهجاً وسلاحاً يتسلحون به دائماً فإذا تمكن الصبر منهم بلغهم الله تعالى الاصطبار الدرجة الأعلى وقد وردت ثلاث مرات في القرآن كلها في الصبر على الدين والطاعة والعبادة ، الذي يدريكم أن دين الله تعالى يحتاج صبر ومثابرة وتحمل ومواظبة يقول تعالى "فاعبده واصطبر لعبادته" ويقول "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" حتى قال "يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" فاصبروا عباد الله وصابروا على دينكم وما ينزل في هذه الدنيا من بلاءات ومحن وواجهوها بالمرابطة على دين الله بذكره وشكره وحسن عبادته.

http://www.jameaalemam.com