جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 1 محرم 1439هـ الموافق 22 سبتمبر 2017م بعنوان " صلة الرحم وحقوق الأقارب "

  27-09-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله .. الإحسان إلى الأقارب والأرحام، ومعرفة أقدارهم، وحفظ حقوقهم وكف الأذى عنهم، وبذل المعروف معهم، وإنزالهم منازلهم، من أعظم الحقوق التي دعت إليها الفطرة البشرية وقررتها الشريعة الإسلامية، وحثّت عليها ودعت إلى التمسك بها، ونهت عن التفريط فيها وحرمت الإخلال بها وتوعدت عليه بعظيم العقاب في الدنيا قبل الآخرة.

 

ولقد بلغ من اهتمام الإسلام بذلك، وتأكيده عليه، وبيان عظيم منزلة الأقارب والأرحام في الإسلام، أن قرن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حقهم في الإسلام بعبادته وتوحيده، والإحسان إلى الوالدين والجيران في قوله تعالى: "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورً".

 

وجعل قطيعة الرحم، وإساءة المعاملة للأقارب والأرحام، والتفريط في حقوقهم، من أعظم صور الإفساد في الأرض، وشعار أهل الكفر والضلال، الذي يستوجبون به غضب الله وسخطه ونقمته ولعنته "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُم".

 

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- "هذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والفعال، وبذل الأموال".

 

‏ومن أعظمها وأجلها في هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق حتى اذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم ! أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى يا رب! قال: فهو لك. قال رسول الله: فاقرأوا إن شئتم: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ". وفيهما عنه رضي الله عنه أنه ‏صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليصل رحمه".

 

‏لقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بحسن معاملة الأقارب والأرحام، وحث على ذلك ورغب فيه، وبالغ في الثناء على الواصلين أرحامهم وأقاربهم ورتب على ذلك الأجور العظيمة، ‏والفضائل الكبيرة، والدرجات العالية التي لا يفرط فيها إلا محروم مغبون خاسر، ونوه بالقائمين بحقوق الأقارب والأرحام، وحذر من تركها، أو التهاون بها، لعظم شأنهم وأثرهم على الإنسان؛ فإن ‏لعظم شأنهم وأثرهم على الإنسان، فإن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة، ولا يتم ذلك كله إلا بصلتهم والإحسان إليهم، والصبر على ما يجري منهم، والحلم عن إساءتهم، وإظهار الود لهم "فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ".

 

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أولئك هم عشيرتك بهم تصول وبهم تطول، هم العدة عند الشدائد، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الناس بك".

 

عباد الله .. إن صلة الأقارب والأرحام والقيام بحقوقهم والحذر من قطيعتهم شعار الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وهي من أعظم أنواع الطاعة التي تجلب للواصل صلة الله تعالى وعونه وتوفيقه، وتدخله الجنة برحمة الله تعالى وفضله. إنها أعظم الأسباب التي تستجلب بها البركة في الأرزاق والأعمار، والتوفيق والسعادة في الحياة الدنيا وبعد الممات، ويكتب الله بها العزة والتمكين للعباد، وتمتلئ القلوب بها إجلالاً وهيبة، وتسود المحبة والألفة والتراحم والترابط.

 

روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنه من أُعطي حظَّه من الرِّفق فقد أُعطي حظَّه من خير الدنيا الآخرة، وصلةُ الرَّحِم وحسنُ الخُلُقِ وحُسْنُ الجِوار، يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار".

 

وأخرج من حديث علي -رضي الله عنه- بسندٍ لا بأس به أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله وليصل رحمه". وليس هذا فحسب، بل إن الله تعالى يجزي الواصل بالصلة بلطفه وإحسانه ورحمته وفضله سبحانه؛ فالجزاء من جنس العمل؛ كما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله".

 

وإنك لواجدٌ في المجتمعات -أخي المسلم- فئاماً من الغافلين، المعرضين عن فضل الله تعالى وثوابه، الذين تفشت بينهم قطيعة الأرحام، وتضييع حقوق الأقربين؛ فهجروا أرحامهم، وقطعوا أقاربهم، وفرطوا في حقوقهم لأتفه الأسباب؛ من أجل هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب كل ذي رأى برأيه، بل من أجل هذه الدنيا وحطامها الزائل، وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة. فمن الناس - عباد الله - من لا يعرف قرابته بصلةٍ ولا إحسان، لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق، لا يشاركهم في أفراحهم، ولا يواسيهم في أتراحهم، ولا يقابلهم بالبشر وطلاقة الوجه وحسن الكلام، تمضي الشهور، وربما الأعوام وما زار أرحامه وأقاربه وما وصلهم، ولا جاد عليهم بجاهٍ ولا نفع، ولا قدم لهم صدقة ولا معروفاً، وربما لم يسلموا من إساءته إليهم بالقول والفعل، يقدم عليهم في البر والصلة الأبعدين، ويتودد إلى الآخرين، والأقربون أولى بالفضل والإحسان والمعروف. 

عباد الله .... ومن الناس من لا يتحمل أدنى شيء من أقاربه، بمجرد أي هفوة أو زلة أو عتاب من أحد أقاربه، يبادر إلى القطيعة والهجران، وينسى حق الأقارب والأرحام وفضلهم. بل إنه منهم من يسعى في تفريق شمل القرابة المجتمعين، وإشاعة القطيعة بين الأرحام، وتأليب بعضهم على بعض، بالكذب والغيبة، والنميمة والظن والبهتان، والله المستعان.

 

‏وكم يبعثك على الأسى والحرقة، من منطلق الأخوة والغيرة على أحوال المسلمين أن ترى أشد أنواع الخصومات في هذه الأزمان لا تقع إلا بين الأقارب والأرحام، حتى هجر الأخ أخاه، وعق الولد أبويه، ‏وقطع القريب قريبا، وكم تساوي هذه الدنيا إذا هجر الإنسان الأقربين، وقطعه الأرحام، فأصبح بينهم غريباً منبوذاً.

 

‏وظلم ذوي القربي أشد مضاضة 

على المرء من وقع الحسام المهند

 

‏فاتقوا الله عباد الله، قوموا بحقوق الأقارب والأرحام كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، واحذروا من قطيعتهم، وأحسنوا إليهم، واتقوا الله فيهم، تفوزوا بجزيل الثواب، وعظيم الحمد في الدنيا والأخرة.

 

 

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

 

‏عباد الله .. إن حقوق الأرحام في الإسلام كثيرة وواسعة، وتشمل الإحسان إليهم، وتفقد أحوالهم، ومد يد العون والمساعدة لهم، والسؤال عنهم، وملاقاتهم بالبشر والسرور وطلاقة الوجه، والتلطف بهم ومعهم، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، ‏والتواضع لهم، ولين الجانب معهم، وزيارتهم وعيادتهم عند المرض، ومواساتهم عند المصائب، وتهنئتهم ومشاركتهم في الأفراح والمناسبات، وإنزالهم منازلهم، والصبر على أذاهم، واحتمال ما يصدر منهم من زلات وأخطاء، ‏وعدم مقابلة الإساءة منهم بمثلها، وإصلاح ذات بينهم، والحرص على ترابطهم، ودعوتهم إلى الهدى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ‏فكل هذا من حقوق ذوي الأرحام والأقارب التي أمر الله تعالى به المسلمين، وحث عليها رسوله صلى الله عليه وسلم بين القرابة والأرحام.

 

 عباد الله .. وإن مما يعين على ذلك احتساب الأجر من الله تعالى في صلة الأقارب والأرحام، والطمع في عفوه ومغفرته وحسن ثوابه، وسلامة الصدر نحوهم، ‏وغض الطرف عن زلاتهم، ‏وأن يعلم المرء علم اليقين أن معاداة الأقارب شر وبلاء في الدنيا، وندامة وخزي في الآخرة، إنها معركة شيطانية الرابح فيها خاسر، والمنتصر فيها مهزوم على الحقيقة.

 

عباد الله .. ‏إن قطيعة الرحم مزيلة للألفة والمودة بين الأقارب، مؤذنة باللعنة وتعجيل العقوبة، مانعة من نزول الرحمة ودخول الجنة، معدودة في كبائر الذنوب والآثام، ففي الحديث المتفق عليه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع" قال سفيان: يعني قاطع رحم. وعند الترمذي وأبي داود وابن ماجة بسند صحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم"، وأعظم عقوبة معجلة تنتظر قاطع الرحم في الدنيا مع العمى واللعنة، رد الأعمال الصالحة وعدم قبولها، روى أحمد بسند حسن عن أبي هريرة وضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم".

 

فليس أمام المسلم الحريص على نجاة نفسه وسعادتها في الدنيا والآخرة إلا ترويض النفس على القيام بحقوق الأقارب والأرحام، ولو قصروا هم فيما يجب عليهم، والتجاوز والتغاضي عنهم، وقبول أعذارهم والتغافل عما يصدر منهم من أخطاء وزلات، فإن ذلك من أجلّ أخلاق الأكابر والعظماء التي يستعينون بها على استبقاء المودة، أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان من أشهر صفاته التي ظهر بها قبل البعثة أنه يصل الرحم، فكان الإحسان إلى الأقارب والأرحام خلقا أصيلاً فيه صلى الله عليه وسلم، نشأ عليه وتربى، كان أقاربه يشتمونه ويؤذونه ويحاربونه ويؤلبون عليه القبائل، ويخرجونه من بلده ويطاردونه، ومع ذلك يدعو الله لهم بالهداية، كما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". ولما فتح الله عليه مكة، وأظهره عليهم، وأظفره بهم، وأمكنه منهم، قال لهم قولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". 

 

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

http://www.jameaalemam.com