جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب الشيخ د. محمد بن حسن المريخي 9 من شهر المحرم 1439هـ الموافق 29 سبتمبر 2017م بعنوان "خلق الوفاء"

  05-10-2017
اضغط على الصورة لعرضها بالحجم الطبيعي

 الخطبة الأولى:    

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الولي الحميد يهدي من يشاء ويمن على من يريد أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وشريعته صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد، فيا أيها المسلمون .. اتقوا الله تعالى واعبدوه واشكروه على نعمة الدين القويم والهداية إلى صراطه المستقيم واعلموا عباد الله أنكم بتمسككم بدين الله حفظكم الله وأمنكم.

أيها المسلمون .. ونحن في خضم الأحداث والفتن والتغير والتحول محاولات وخطط وكيد وعثرات، محاولات للنيل من دين الله والتنكر له، وسلب أوطان والطعن والتخوين للخلان، واهتزاز أخوة ومودة وقطع أرحام واتهام بالإرهاب والإفساد والطغيان.

في هذا الخضم الهائل من المكدرات والمحزنات نتذكر خُلقاً من أخلاق الإسلام وهو من أرفع درجات الفضيلة وأجلّ الأخلاق الكريمة الذي عرف به العرب وأكده الإيمان، إنه خلق الوفاء، الوفاء في وقت يتخلى عنه البعض ويتجرد البعض الآخر منه.

الوفاء معناه حفظ العهود والوعود والمواثيق والأمانات وأداؤها، والاعتراف بالفضل للغير وحفظ الجميل وصيانة المودة والمحبة ورعاية الصلات.

الوفاء للمحب الحبيب الذي وقف المواقف وساعد في الأزمات والضائقات ودافع في المحافل والهيئات وأخلص يوم استدعيت الذمم والأمانات.

الوفاء كلمة تنشرح لها الصدور وتشرق لها النفوس، وهو درجة عالية رفيعة يتطلع إليها المخلصون الصادقون ويقصر عنها الضعفاء المنهزمون.

الوفاء خلق رفيع يحتاج إلى التزام صادق في الأقوال والكلمات والأفعال، كما يحتاج إلى ثبات وتمسك بالحق مهما تكالبت النكبات وتغيرت الأيام والأوقات، فلهذا أهل الوفاء قلة قليلون والخونة كثرة خائبون.

أيها المسلمون .. لقد وصف الله تعالى نفسه بالوفاء فقال "ومن أوفى بعهده من الله"، والوفاء خلق أنبيائه يقول الله تعالى "وإبراهيم الذي وفى" ويقول "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا...".

وقال: ( إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) وأمر الله تعالى بالوفاء.

ويقول تعالى "وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" وقال "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا".

أيها المسلمون .. إن أعلى درجات الوفاء وأسماها وأجلّها وأرقاها الوفاء لله تعالى، وفاء العبد لربه جل وعلا الذي خلقه فسواه وأسبغ عليه النعم ودفع عنه النقم.

الوفاء مع الله بالتزام أمره ونهيه والخضوع لشرعه وحكمه ومطالعة نعمه ومننه وبركاته، يقول تعالى "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن هذا غافلين".

الوفاء مع الله بشكره على نعمة الإيمان والإسلام والتوحيد والحفظ من الكفر والشرك والإلحاد.

الوفاء مع الله بمطالعة النعمة بالدين الحنيف والهداية إليه بعين المقدّر المثمن للنعمة، فيدفعه هذا للعمل بالدين وحراسته والدفاع عنه، وإعزازه ورفع راياته وتنزيهه عن النقائص والقصور وإلصاق القبائح به من الألقاب والأوصاف "كالإرهاب والتطرف والتأخر والظلامية".

الوفاء مع الله اعتقاد صحيح فيه سبحانه وفي شرعه على أنه كامل صالح لكل زمان، وثقة في انتصار هذا الدين واتباعه، وأنه لن يهزم أبداً "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون".

وأنه الهدى المستقيم والدين القويم "قل إن هدى الله هو الهدى"، "قل إن الهدى هدى الله"، "ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير".

ومن الوفاء لله الوفاء لرسوله باتباع سنته والسير على هديه وتصديقه ومتابعته والصلاة عليه، وأن الخير كله فيما وجه إليه ونصح به "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً، وأن من خالفه أو عارضه فهو على الباطل "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم..."

وأن من كفر به صلى الله عليه وسلم فالنار مستقره "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده" يقول صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".

ومن الوفاء لله الوفاء لكتابه بتلاوته وتدبره وتعلمه وتعليمه والعمل به والوقوف عند أوامره ونواهيه.

يقول الله تعالى "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" وكذلك الوفاء للسنة النبوية المطهرة التي هي وحي من الله تعالى بعد القرآن باتباعها واعتمادها والدفاع عنها والرد على من طعن فيها من الجاهلين والمغرضين الساخرين والمستهزئين، يقول الله تعالى "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وفضح المشككين فيها يقول تعالى "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً".

أيها المسلمون .. إن أحق الناس بالبر والوفاء هما الوالدان، فقد بذلا وأعطا وتعبا وشقيا من أجل أبنائهما، فهما السبب في وجودهم "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً" وقال سبحانه "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً"، لقد مرضا لتصح وسهرا لتنام وجاعا لتشبع وحزنا لتفرح وتضررا لتنتفع، يقول رسول الله وقد سأله رجل: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" وقال لآخر وقد سأله عن بر والديه بعد الممات هل بقي من بر أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما، وقال: إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه.

وهناك الوفاء للزوج والزوجة البارة بالمعاشرة الطيبة والمعاملة الحسنة وإعانتها على الطاعة وحفظها وسترها والثناء عليها عند عمل الخير والصفح عنها عن حدوث الخطأ، يقول الله تعالى "وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" ويقول رسول الله "وإن لزوجك عليك حقاً" ويقول "تزوجوا الودود الولود".

ومن الوفاء للزوج الطيب الصالح بمودته واحترامه والتأدب معه وتلبية حوائجه وطلباته قدر الاستطاعة وتذكيره وإرشاده والثناء عليه في الخير والعفو عنه عند الزلل، يقول رسول الله "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة لتسجد لزوجها" رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

وما كان الوفاء بين الزوجين إلا كان البيت مباركاً، بيت الخير والصلاح والطاعة وما تربى فيه أحد من الأبناء إلا نبت نباتاً طيباً، يقول الله تعالى "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً".

والوفاء للأرحام بصلتهم ومساعدتهم والتأدب معهم وتوفير حوائجهم يقول تعالى "وآت ذا القربى حقه..." وتطييب خواطرهم وبسط الوجه لهم ولين الكلام لهم، يقول رسول الله "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه" ويقول "من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه".

ومن الوفاء للأرحام المبادرة إلى إصلاح ذات بينهم والعفو عنهم والتجاوز عن الأخطاء وقبول الاعتذار منهم.

ومن الوفاء للناس أجمعين بالإحسان إليهم قولاً وعملاً، يقول الله تعالى "وقولوا للناس حسناً" ومن الوفاء لهم عدم التدخل في شؤونهم الخاصة والإمساك عن أذيتهم.

أيها المسلمون.. ومن أجلّ الوفاء، الوفاء للأوطان التي ولد فيها المرء وترعرع فيها، استظل بظلالها وفيئها وتربى فيها، فيكون الوفاء لها بطاعة الله فيها ونشر الفضيلة والأمر بالمعروف وحراستها وصيانتها والدفاع عنها ودفع الظلوم الحقود ودحره، وبنائها والمحافظة على مكتسباتها وتقدير الظروف ومطالعة نعمة الله فيها، نعمة الأمن فيها والاستقرار ووجود الأحبة والأرحام والأحباب ومن يسكن منهم في سويداء القلوب.

ومن الوفاء للأوطان الوفاء لولاتها الطيبين المحبين لرعاياهم وشعوبهم بمعاونتهم والدعاء لهم والوقوف معهم صفاً واحداً للدفاع عنها.

أيها المسلمون.. وإذا ذكرت الشعوب الوفية لأوطانها وولاتها تقدمها الشعب القطري الوفيّ لوطنه قطر، ولولي أمره، بإخلاص هذا الشعب معه ثم لولي أمره ووفائه قولاً وعملاً، فلقد ضرب أهلنا وشعبنا أروع الأمثلة في التكاتف والاتحاد والمحافظة على البلاد، قال الله: "وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" ، "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط".

أيها المسلمون.. ولي الأمر الوفي المحب يعض عليه بالنواجذ ويحفظ ويحرس، لأنه رأس الدولة وعينها وحارسها الأمين والشعب الوفي يعض عليه بالنواجذ ويحرص عليه ويبنى ويخدم، ويصان بدين الله ويحفظ ، لأنه الحارس الأول لها بعد الله تعالى للوطن ومكتسباته وكيانه.

إن على شعبنا الوفيّ بعد إذن الله عز وجل أن يعمل على بناء الوطن حسياً ومعنوياً، ويتسلح بالعلم النافع والتمسك بالدين الحنيف ولا ينشغل بالمغرضين والوشاة التافهين ويعرض عن عوامل الهدم من الناس الحاقدة والإشاعات والأخبار السيئة وذكر ما يهوّن العزائم والإرادة من أقوال المرجفين الحاقدين وأفعال المبطلين، حفظ الله لنا ديننا وعقيدتنا وبلادنا وولاة أمورنا.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وسار على دربه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أمة الإسلام .. اشكروا الله تعالى على ما أسبغ عليكم من النعم في هذه البلاد وفي كل البلاد يا عباد الله، اشكروا الله تعالى بالوفاء لهذه البلاد ولولاة أمورها الذي بذلوا ما أعانهم الله عليه من أجل البلاد والعباد. اشكروا الله تعالى بالقول والعمل وقدروا العمل والمكتسبات.

أيها المسلمون ..غدا هو اليوم العاشر من المحرم وهو اليوم الذي نصر الله تعالى فيه موسى عليه الصلاة والسلام وقومه، نصر فيه الله موسى عليه الصلاة والسلام وقومه المؤمنون على فرعون الطاغية.

اليوم الذي نصر الله تعالى فيه الإيمان والإسلام والتوحيد على العلمانية واللبرالية والإلحاد والتشكيك، نصر الله دينه على الفسقة، نصر الله تعالى رسله الكرام وأتباعهم على من خالفهم.

هذا اليوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووجد اليهود يصومون هذا اليوم فلما سألهم قالوا نصومه شكرا لله لأن الله تعالى نصر موسى وقومه على فرعون، فقال عليه الصلاة والسلام نحن أحق بموسى منكم، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأن عشت إلى قابل لأصومن التاسع - يعني مع العاشر- ولكن الله تعالى اختاره صلى الله عليه وسلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم من العام القابل.

فيا عباد الله .. هذا اليوم المبارك الذي هو يوم العاشر من المحرم لشهر الله المحرم ليس فيه إلا هذا الهدي النبوي الصحيح أن المسلمين يصومون هذا اليوم اقتداء برسولهم صلى الله عليه وسلم، ليس فيه مما شرقت الأمم وغربت، ليس في هذا اليوم إلا هذا الصيام، وهذه الحادثة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الأخبار بأن الله تعالى في هذا اليوم نصر فيه موسى على فرعون.

فالسنة يا عباد الله أن يصوم المسلم المستطيع استحبابا لهذا اليوم العاشر فقط، وإما أن يتابع السنة كما أخبر النبي فيصوم اليوم التاسع مع اليوم العاشر، وإما أن يصوم يوما قبله ويوما بعده يعني أن يصوم اليوم التاسع واليوم العاشر واليوم الحادي عشر، وكل ذلك جائز، فلا تفوتوا على أنفسكم هذا الفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلها، فيصوم العبد سويعات ويكفر الله تعالى سنة كاملة، فهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمة.

اشكروا الله على النعم وتمسكوا بدين الله تعالى، ولا تلتفتوا إلى شرقية أو غربية فإن الحياة الطيبة في هذه الحياة والحياة التي يتلذذ بها العبد في هذه الحياة فضلا عن الحياة الآخرة إنما هي لمن تمسك بهذا الدين، لمن أقام دين الله، لمن اهتم بدين الله، "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا"

يقول الله تعالى "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، فالحياة الطيبة التي شهد الله من فوق سبع سماوات أنها حياة طيبة إنما هي لمن آمن وعمل صالحا "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ".

فمن رام الحياة الطيبة من فرد واحد أو من أمة أو من مجتمع أو من أسرة فعليهم بطاعة الله تعالى والعمل بالإيمان "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" يعني في الآخرة أما من أعرض عن دين الله أو تشكك في قبول دين الله أو أخر دين الله أو اتهم دين الله أو رأى أن غير دين الله تعالى فيه السعادة وفيه ما فيه كما يقولون فهو كما قال الله تعالى يأتيه الجواب من الله تعالى "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا" أي معيشة ضيقة، فهؤلاء الذين يريدون أن يبعدوا دين الله ويطردوا دين الله تعالى ويفرقوا بين الناس وبين دين الله ليس لهم إلا كما قال لله تعالى فإن له معيشة ضنكا، فهم ينتظرون المعيشة الضيقة في كل أمورهم والعياذ بالله.

فيا عباد الله .. الله الله في التمسك بالدين من اراد الحياة الطيبة ومن أراد الفلاح ومن أراد سعة الصدور  واطمئنان القلوب واطمئنان المجتمعات واستقرار البلدان فعليه بدين الله تعالى.

أسأل الله سبحانه وتعالى تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه كما أمركم ربكم جل وعلا في محكم التنزيل بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما".

 

http://www.jameaalemam.com