جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب 04 ربيع الآخر 1439هـ الموافق 22 ديسمبر 2017م الشيخ عبدالله بن محمد النعمة بعنوان "التوكل والثقة بالله"

  28-12-2017

الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أوصيكم ونفسي أيها المسلمون بتقوى الله سبحانه وتعالى، والاستعداد لتقوى الله ومحاسبته، يقول الله سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". أيها المسلمون .. التوكل الصادق على الله تعالى والثقة به، واليقين بموعوده جماع الإيمان، وباب السعادة ورضى الرحمن، إنها خصال عظيمة مترابطة تدل على كمال الإيمان وحسن الإسلام، وتجلب للعبد محبة الله تعالى ومعونته ونصره وتأييده، تحفظ العبد من الشيطان ونزغاته وأعوانه، وتورثه راحة البال واستقرار الحال، وبها تمام المعونة من الله تعالى في سعة الرزق، وتحقيق الرضا وتكفير الخطايا ورفعة الدرجات، وهي من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب للمسلم، ويندفع بها كل مكروه عنه، فإن الله سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، "ومن يتوكل على فهو حسبه". أجل أيها المسلمون .. إن التوكل على الله تعالى والثقة واليقين به سبحانه منزلة من أوسع المنازل في الإسلام وأجمعها، فإن الدين توكل على الله سبحانه واستعانة به، وثقة به سبحانه ويقين عليه، وعبادة له عز شأنه وإنابة إليه. عباد الله .. والتوكل على الله والثقة به في حياة المسلم هو عمل وأمل، مع هدوء قلب وطمأنينة نفس واعتقاد جازم بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لن يصيب المرء إلا ما قدره الله عليه، وأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وأن ما وعد الله سبحانه وتعالى عباده من الخير والرزق، والتأييد والنصر والتمكين في الأرض، متحقق لا محالة، متى صدق العبد في إيمانه وطاعته، وحسن توكله على الله وثقته ويقينه به سبحانه. قال ابن القيم -رحمه الله-: "والتوكل –أي التوكل على الله- من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم". عباد الله .. إن الثقة بالله تعالى هي سواد عين التوكل عليه سبحانه، ونقطة دائرة التفويض إليه واليقين به، روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل". وفي الحديث الصحيح عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف". عباد الله .. كم يحتاج المسلم وخاصة في مثل هذه الأيام إلى صدق التوكل على الله في حياته، وحسن الثقة به في مطلوبه وموعوده، حتى يكون ذلك سجية له في أفعاله وأقواله، وخُلُقاً لا ينفك عنه أبداً في سيره إلى الله سبحانه وتعالى والدَّار والآخرة، ولكن واقع الكثير من الناس يخالف ذلك ويناقضه، يدَّعون التوكل على الله سبحانه، ويزعمون الثقة به، "فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ"، وإذا أُصيب أحدهم بمصيبة في ماله أو أهله أو نفسه جزع وتبرَّم، واعترض على قضاء الله وتسخَّط، "يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا". عباد الله .. وإن مما يعين المرء المسلم على ترسيخ صفة التوكل على الله والثقة به في حياته: الإيمان بنصوص القرآن والسنَّة الثابتة والتصديق بما تحمله من بشارات كريمة، ووعود عظيمة للمتوكلين على الله، الواثقين بما وعد به عباده الصالحين، الموقنين بفضله ونصره ولقائه سبحانه وما أعدَّه للمتقين المؤمنين من عباده. ثم النظر في أحوال المتوكلين على الله الواثقين به سبحانه من أنبيائه ورسله وصفوته من عباده الصالحين، والتأسي بأحوالهم، وما سطَّروه في صفحات التاريخ من مواقف رائعة في التوكل على الله والثقة واليقين به سبحانه، مما يزيد المسلم يقيناً إلى يقينه، ويمنحه دروساً في التوكل والثقة واليقين بالله لا تزعزعها الخطوب، ولا تؤثر فيها عوارض الحياة وصروف الدهر، وسهام الأعداء. عباد الله .. إن عز المسلم الحقيقي هو استغناؤه عمَّا في أيدي الناس، والبعد عن سؤالهم، وعلى هذا بايع الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايعوه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان سوط أحدهم يسقط على الأرض من على راحلته، فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه. ثم اعلموا عباد الله أن التوكل الصادق على الله فهو قطع اليأس من الناس بصدق الالتجاء إلى الله، والاعتقاد الجازم أن شيئاً لن يكون إلا بأمره وتقديره، يقول التابعي الجليل سلمة بن دينار رحمه الله: خير مالي ثقتي بالله تعالى، وإياسي مما في أيدي الناس. عباد الله .. وكثير من الناس يدَّعون التوكل على الله تعالى، لكن دعواهم باطلة، لأنها خالية من مقتضيات التوكل، من رضا وطمأنينة. قال بشر الحافي رحمه الله: يقول أحدهم توكلت على الله، يكذب على الله، ولو توكل على الله لرضي بما يفعله. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة من أمته سبعون ألفا قدامهم، لا حساب عليهم ولا عذاب، ثم قال: هم الذين لا يكتوون، ولا يسرقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. وإذا خرج المسلم من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان. عباد الله .. ولقد ضرب رسولنا ‏صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة وأعلى النماذج في تحقيق التوكل على الله عز وجل على أكمل الوجوه وأحسنها، فكان يلبس لامة الحرب عليه الصلاة والسلام، ويمشي في الأسواق في طلب الرزق، لا يتطير من شيء ولا يتشاءم بشيء، وكان يحب الفأل الحسن، وإذا غزا في سبيل الله أعد العدة، وأخذ الحذر والحيطة، ثم قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل". وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام قوله: "اللهم بك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت". وفي هجرته ‏صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة أعظم الدروس العملية البيانية لتحقيق التوكل على الله سبحانه، مع بذل الأسباب المشروعة، فلقد أعد عليه الصلاة والسلام للأمر عدته، وبذل طاقته وكتم الخبر، واتخذ كل الوسائل المعنية له على تحقيق مقصده، فأمر أبا بكر الصديق بالاستعداد والتخطيط، وأمر عليا أن يبيت في فراشه تلك الليلة، وخرج هو وأبو بكر سرا، وأمر أسماء بنت أبي بكر أن تحضر لهم الزاد في الغار، وأخاها أن يوافيهم بأخبار المشركين، وراعي غنم أبي بكر أن يريح عليهما الغنم مساء ليشربا من ألبانها، واستأجر عليه الصلاة والسلام دليلا ماهرا بالطريق إلى المدينة، واختبأ في الغار ثلاثا، ومضى في هجرته هو وصاحبه داعيا -مع بذل الأسباب- رب العالمين سبحانه التوفيق والحماية، يطارده المشركون ويصلون إلى فم الغار، فيقول أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم في ثقة عجيبة بالله، وإيمان فريد بوعده وتأييده، وتوكل صادق على الله: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا"، وحماه الله من الأعداء، ونصره عليهم، ورد كيدهم ومكرهم عليهم، وأوصله المدينة غانما سالما. إن التوكل على الله عز وجل، مع بذل الأسباب المشروعة صفة الأنبياء والمرسلين، الذين كانوا مثلا أعلى للبشرية جمعاء في صدق التوكل على الله عز وجل، والاستعانة به، والإنابة إليه، فها هو نوح وهود وصالح -عليهم السلام- لما سخر منهم أقوامهم، وأذوهم، وخالفوا أمرهم، قالوا لهم بلسان واحد: "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ". بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم الخطبة الثانية: الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وإخوانه. أما بعد، فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، وأشكروه، واعلموا رحمكم الله أن التوكل الحقيقي على الله عز وجل، مع بذل الأسباب، وتفويض الأمور إلى الله سبحانه وتعالى دون غيره، واعتقاد أنه لا يضيع أجر العاملين، وأنه مالك النفع والضر دون سواه، من الأمور المهمة التي يجب على ‏المسلمين جميعا الإيمان بها، واعتقادها، وتطبيقها واقعاً ملموساً في حياتهم. ‏وأن فيها من صفات القوة والعزة والثقة بالله تعالى، وتحصيل المطلوب، ودفع المكروه ما لا يخفى، فمن توكل على الله بصدق كفاه، وأزال همه وغمه وهداه، ورزقه من حيث لا يحتسب، وبدد أحزانه وأشجانه، وصرف عنه كيد الكائدين، وشر الحاسدين، "وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، ويقول سبحانه: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ". ‏أيها المسلم .. ثق بالله وأرض به، وقابل قوافل القضاء وصروف الدهر، وسهام الأعداء بعزم التوكل على الله تعالى واليقين والثقة به، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن اليسر مع العسر، وأن الفرج مع الكرب، وأن العافية مع البلاء، وأن الرزق والنصر من الله سبحانه، ‏وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجعلها، "فاصبر إن العاقبة للمتقين". ‏واعلم أن الدين دين الله الذي قال عن نفسه: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ"، وقال سبحانه: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ"، فثق بالله تعالى، واعلم: "إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". يقول القائل: سيفتح باب إذا سد باب نعم وتهون الأمور الصعاب ‏ويتسع الحال من بعد ما تضيق المذاهب فيها الرحاب مع الهم يسران هوّن عليك فلا الهم يجدي ولا الاكتئاب إذا عدد الناس أربابهم فنحن لنا ربنا الواحد ألا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

http://www.jameaalemam.com