جامع الامام محمد بن عبدالوهاب
خطبة الجمعة بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب الشيخ عبدالله بن محمد النعمة 16 محرم 1439هـ الموافق 6 أكتوبر 2017م بعنوان "خطر لعن المسلمين وسبهم"

  18-01-2018

 الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك وأن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". 

أما بعد .. فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

‏أيها المسلمون .. الألفاظ والكلمات دلائلها ومعانيها التي تحمل في طياتها الخير فيجازى عليها الإنسان بالإحسان إحسانًا، ‏أو تحمل في طياتها الشر والفحش، والبذاء فيجازى عليها بالسيئات المضاعفة  "ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد".

‏إن جارحة اللسان لها أعظم الأثر في حياة المسلم؛ ديناً ودنيا، ‏ربط الله عليها الفلاح، ورتب عليها الجزاء والعقاب، وعلق عليها السعادة أو الشقاوة في العاجل والآجل، بكلمةٍ واحدةٍ يدخل الإنسان في الدين والملة، ألا وهي كلمة التوحيد، ‏لا اله الا الله محمد رسول الله، وبكلمةٍ واحدةٍ يتبوأ العبد‏ في الجنة ‏غرفاً من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار، والأعضاء كلها تكفر اللسان، مرتبطة به في صلاحه واعوجاجه ، ولرب كلمة اوردت صاحبها الموارد، فندم عليها ولات ساعة مندم، ولله در القائل:

قدر لرجلك قبل الخطو موضعها 

فمن علا زلقاً عن غرةٍ زلقا 

ولهذا - معاشر الاخوة - تكاثرت نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف في تعظيم شأن اللسان، ترغيباً وتهريباً، ولذلك فإن أوجب ما صرفت فيه الاهتمامات أن يحفظ المرء لسانه، وأن يحترس من فلتاته وزلاته، حتى لا تورده موارد الهلكة.

عباد الله : 

ومن أعظم مداخل اللسان على المسلم ضرراً، وأشدها إثمًا وخطرا، مدخل التجريح والتعريض بالمسلمين، سباً وشتماً، ولعناً وقذفاً، وبهتًا وافتراءً، تجريحاً وتفسيقاً، وتبديعاً وتكفيراً، على صورة وساوس غامضة، وانفعالات متوترةٍ، وحسد قاطع، وتوظيفٍ لسوء الظن، والظن أكذب الحديث، وبناء على الزعم والقيل ،وبئس مطية الرجل قالو وزعموا.

روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريره - رضي الله عنه - أن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: قال: أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟   قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".

‏قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يعجبنكم طنطنة الرجل، ولكن من أدى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل". ‏فالويل كل الويل لمن وقع في أعراض المسلمين، بالسب أو الشتم  أو القذف أو اللعن.

‏وقد يظن أحدهم أن مدار ذلك على اللسان فقط، ولكن الأمر تعدى، وبخاصة في هذا العصر الذي انتشرت فيه وسائل التواصل والإعلام، فكم ‏وقعوا في أعراض المسلمين من خلال ما كتبوا أو قالوا أو أعلنوا "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون".

‏فالعقاب إن لم يكن عاجلًا في الدنيا، فعند الله يوم القيامة تجتمع الخصوم، "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون".

عباد الله .. ولو نظر الإنسان بعين البصيرة والعدل إلى نفسه، لوجد فيها من العيوب ما يحجزه عن عيوب الناس، ‏ويشغله عن تتبع زلاتهم، والحكم على نياتهم، ومقاصدهم، روى الترمذي بإسناد حسن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله ما النجاة؟! قال أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"، ‏وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال من سلم المسلمون من لسانه ويده". قال الله تعالى: "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثماً مبينا".

عباد الله .. ومن أخطر ما يقع فيه العبد بلسانه أن يكفر أحداً من المسلمين، أو يبدعه، أو يفسقه، ‏لهوى في نفسه، أو جهلٍ في قلبه، بدون بينةٍ شرعيةٍ يقيم عليها حكمة، إذ الأصل في الإسلام، ‏تحريم النيل من عرض المسلم، بغير حق، فأعراض المسلمين من الضرورات الخمس التي جاء الدين بحفظها، والتحذير من الاعتداء عليها، وحين حرم الإسلام الربا، وجعله من أكبر الكبائر، وأعظم البوائق، جعل من ‏أربى الربا الاستطالة في عرض ‏المسلم بغير حق، كما أن الأصل بناء حال المسلم على السلامة والستر، ولذلك كان من الأمور المقررة في الشريعة: أنه لا يجوز سب المسلم المعيَّن، ولا تكفيره، ولا تبديعه، ولا تفسيقه، إلا ببينةٍ.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه". وعند البخاري من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر، وإلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك".

حتى المذنب العاصي - عباد الله - لا يجوز سبه ولا تكفيره، ولا لعنه ولا تفسيقه، فكيف بالمسلم الذي لم تظهر منه معصية ولم تبدر منه زلة! ومن يدري لربما يعمل العاصي من المسلمين بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها، كما صح بذلك الحديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فجلده، فلعنه بعض الصحابة، قال لا تلعنوه، لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم". 

قال الإمام الطحاوي: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم من رحمته".

عباد الله .. ومن الجوانب الخطيرة التي يورد اللسان من خلالها صاحبه موارد الهلكة، لعن المسلمين أحياء وامواتاً، وهي مما تساهل فيه الناس، وأكثروا منه، وهي شديدة الإثم عند الله تعالى، ففي الحديث المتفق عليه، قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله". 

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العبدَ إذا لعَنَ شيئاً، صعدت اللَّعنةُ إلى السماء، فتُغلَقُ أبوابُ السماءِ دونَها، ثم تَهبِطُ إلى الأرض ، فتُغلَقُ أبوابُها دونها ، ثم تأخذُ يميناً وشمالاً ، فإذا لم تجد مَساغاً رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان لذلك أهلاً، وإلا رجعتْ إلى قائلها". وعند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة". 

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! رجل من قومي يشتمني وهو دوني، علي بأس أن أنتصر منه؟ قال: "المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان" ومعنى يتهاتران: يتكلمان بالباطل والساقط من الكلام، وكفى بذلك إثماً مبينًا.

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وطهروا ألسنتكم من الوقوع في المحرمات، وألزموها بطاعة الله تعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليماً غفوراً.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

‏عباد الله .. لقد تساهل الناس في اللعن لخلق الله، حتى أنه ليجري على ألسنتهم لأتفه الأسباب، وكأن ابن القيم - رحمه الله - شاهد عيان لما يجري في عصرنا حين قال: "‏ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين، ‏والزهد، والعبادة، والورع، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش، والظلم، ولسانه يفري في ‏أعراض الأحياء والأموات، لا يبالي ما يقول".

‏وأعظم من ذلك -عباد الله- حين يكون السب، واللعن، والشتم لأناس صالحين، قد ماتوا، وأفضوا إلى ما قدموا، والله وليهم وحسيبهم، ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل لما بلغه أن رجلاً يتكلم في الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية ‏رضي الله عنهما قال قولته الشهيرة: "أولئك قوم عصم الله أيدينا عن الوقوع في دمائهم ، فيجب أن نعصم ألسنتنا عن الوقوع في أعراضهم".

‏عباد الله .. ‏لقد كثر وقوع الناس في اللعن إلا من عصم الله، حتى أن بعضهم ليلعن أخاه، وأهله، وزوجته، وأبناءه لأتفه سبب، ثم يساكنهم بعد ذلك، ويجالسهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صحبة ملعون، واللعنة إذا صدرت من قائلها فلم يكن ‏الملعون لها أهلاً رجعت على قائلها، فأحدهما ملعون، لا شك في ذلك، روى مسلم عن عمران بن الحصين ‏رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة ، فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة" قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد.

‏وأما لعن أهل المعاصي غير المعينين بأسمائهم، فهذا من ما جاءت به الشريعة، وأجازته، وأدلته من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، كقوله تعالى: "ألا لعنة الله على الظالمين"، وقوله عن المنافقين: "‏ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا"، وقوله: "ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين". ‏

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا، وموكله، ولعن من ذبح لغير الله، ولعن من لعن والديه، إلى غير ذلك مما صحت به الأخبار وتواترت به الأحاديث.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

http://www.jameaalemam.com